هناك دوما طريقتان في الحديث عن الحدث السياسي: طريقة تمتح لغتها من القاموس السياسي المتعارف عليه، بلغة فصيحة، مسكوكة، وقابليتها للتأويل هي التي تجعل منها مضمونا سياسيا، وأخرى مباشرة، متدفقة، تسعى إلى البساطة، وقد تخسر من العمق السياسي والبرود المعنوي ما تربحه من تداولية أو من رسوخ في الذهن. وفي التعليق على خطب الملك، التي تعد منطقا دستوريا، قد نميل إلى اللغة الأولى باعتبارها اللغة التي تسير مع الإشارات والمغازي العميقة. وللحقيقة، فإن الخطاب لابد من أن يتحرر من الكثير من أعرافه، ومن تركيباته وتعقيداته للحديث عن عمق الشيء. لقد تعودنا على الفصحى، كما تعودنا عليها ضاربة في الصلابة المؤسساتية للناطق الرسمي بها، وكان المرحوم الحسن الثاني لا يتخلى عنها إلا إذا كان يريد أن يقول كلاما مباشرا، وفي الغالب حادا وشرسا، كما حدث بعد أحداث 81 واعتقال قادة الاتحاد الاشتراكي، حيث عوض هيبة الدولة الفصيحة بكلام شرس في حق معارضيه، وكما تحدث عن أحداث 84 والإحالة التاريخية التي جاءت في كلامه والكلمات القدحية أيضا، أو عندما تعلق الأمر بتهديد من يلتقي بالفلسطينيين على إثر الخطأ الشنيع الذي ارتكب في حق المغرب في الجزائر في مؤتمر منظمة التحرير الفلسطينية.. لست محللا خطابيا ولا ينبغي لي، ويمكننا مع ذلك القول بأن الخطاب يجد طريقته اليوم إلى الوعي الحسي المباشر بالمغاربة، بالرغم من فصاحته وتقنية اللغة، وبالرغم من إدراك الجميع لمستوى الممارسة السياسية في بلادنا، لأنه في صلبه حديث مباشر إلى الناس، ولأن فصاحته التعبيرية لا تلغي الفصاحة الرسالية أو فصاحة المضمون، وبتعبير آخر، إن فصاحته من حقيقة الحديث. هناك اليوم خطاب لا يبحث عن الالتواءات اللغوية المفخمة لكي يقول ما أنجزنا، كما أنه لا يسعى إلى الالتواءات اللغوية التي لا تقول شيئا، لكي يخفي ما لم ننجزه. فالحديث الملكي واضح عن التوجهات التي تحكم البلاد، وفيها التوجه الإصلاحي المتعدد المشارب، كما أنه يتحدث عن المعيقات التي تقف في طريقنا. هل نقوم بكل ما يجب، أو هل نملك الشجاعة التي يجب في القرارات التي تجب؟ جواب الملك هو: كلاّ، وأن الممارسة في الكثير من الأشياء تنقصها الشجاعة. ولو قالها قبله أحد آخر، ولو من باب الحديث الأكاديمي أو المعرفي، لربما قام من يشنق المتحدث في قارعة الطريق أو سماه بما لا يسمى، وربما وقف من يعتبر ذلك محاولة للتشكيك أو للعودة إلى الماضي، ومن يدري هناك ربما من كان سيعتبر ذلك هروبا إلى الأمام، أو دعانا إلى التفكير في وزارة ... للجبن السياسي والتردد الوطني!! هذا ملك شجاع يقول بأن هناك نقصا في الشجاعة، والشجاعة.. ليست هي البحث عن الثورة الكاملة في الممارسة، بل ليست الثورة، بل الإصلاح والتحول العميق في الأفكار وفي الأساليب، هما الكفيلان بأن يضعا التربة الأساسية للإصلاح الدائم. هناك، ولا شك، ثغرات قالها الملك، ولكن الذي يمكننا قوله هو أن هذه الثغرات لا يمكن أن ننسبها، أو نلوم عليها الإصلاح، بل هي تعود إلى المحيط والبيئة والمكلفين بالسهر على التنفيذ. والتنفيد له دائرته المؤسساتية والدولتية.. الخ. إن الشجاعة، كما قالها جورج كليمانصو، هي أن «نعرف ما نريد، وعندما نعرفه، يجب أن نملك الشجاعة لقوله، وعندما نقوله يجب أن نملك الشجاعة لكي نقوم به»، وهو ربما ما يريدنا جلالة الملك أن ندركه، وأولنا المسؤولون.