احتفاء بجزء من ذاكرتنا الثقافية المشتركة ، واستحضارا لعطاءات مبدعينا وإسهامهم في إثراء رصيدنا الابداعي الوطني والعربي ، نستعيد ، في هذه الزاوية ، أسماء مغربية رحلت عنا ماديا وجسديا ، لكنها لاتزال تترسخ بيننا كعنوان للإبداعية المغربية ، وللكتابة والفن المفتوحين على الحياة والمستقبل. ان اللحظات التي جمعتني بالشاعر احمد بركات (1961 1994) كانت كافية كي يظل حاضرا في الشغاف مدى الحياة. كان شابا يافعا كله حيوية ونشاط. كان يحلو لي ان اناديه بالتركي.. ربما لشكله الجميل المميز، شعر غزير وناعم وشارب نتشوي وقسمات واضحة، بالاضافة الى روحه المرحة. جمعتنا قراءات شعرية كثيرة في البيضاء والرباط وسلا وأماكن اخرى. كنا في بداية المشوار نحاول، كالآخرين، ان نشق مسارنا الابداعي. وقد حصلنا معا على بطاقة العضوية في اتحاد كتاب سنة 1986، وسمح لنا ان نقرأ مع «الكبار» في امسية شعرية باذخة بقاعة عبد الصمد الكنفاوي التي احتضنت المؤتمر. كانت القاعة غاصة عن آخرها. و كان الحضور مميز. هذه الامسية قربت بيننا كثيرا وتواعدنا على اللقاء. هكذا كان موعد هنا وموعد هناك. توطدت العلاقة وزرته صحبة اصدقاء آخرين في بيته حيث يعيش مع عائلته. بعد ذلك استضفته في بيتي في بورنازيل. تلك الليلة بالذات كانت استثنائية، اذ انفتحنا على بعضنا وحكى كل منا مواجدة ومواجعه. قضينا الليلة في شهر جميل صحبة ما يكفي لتوهج الروح.. في تلك الليلة انصتنا كثيرا للطرب المغربي الاصيل، واكتشفت في الصديق الراحل رهافة احاسيسه وخفة الكائن فيه.. ارهف الاصغاء لروائع الاغنية المغربية عزفا وكلمة ولحنا. بكى وهو يسمع لحن الراشدي في رقصة الاطلس.. كما كان يهتز طربا وهو يسمع بهيجة ادريس.. ألحّ علي ان اسجل له بعضا من هذه الاشرطة لانها تغمره بالسعادة.. قلت له: هذه ميزة تسجل لك. اخذت على نفسي ان اسجل له بعضا من هذه الروائع، لكن لم اتعجل معتقدا ان ثمة ما يكفي من الوقت ليأتي مرة اخرى الى البيت نتسامر ونسمع ونسجل ما يحلو له. لم أكن أعرف ان المعول عليه في الزمن سيخون.. كما اني لم أعرف ان أحمد كان يستعجل الرحيل.. بسرعة توالت الاحداث وسقط طريح الفراش. كنا واهمين انا وجماهري والحكماوي ورشيد الفؤادي وبنداوود وهم في سباتة انذاك اعتقدنا انها وعكة صحية عابرة، الى أن جاء الخبر كالصاعقة وكن في المهرجان الثالث عشر بمدينة شفشاون ايام 7 - 10 شتنبر 1994 . كان الذي نقل الينا الخبر سريعا وهو الشاعر حسن الوزاني.. كنا حول مائدة الانعاش الروحي في المطعم.. صعقنا بالخبر جميعا وانتابنا الذهول، لا احد كان يصدق رحيل بركات المفروض ان يساهم معنا في القراءات الشعرية لولا المرض الذي اعتقدنا انه سينهض منه سالما معافى لم ينقذنا من ذلك الذهول الرهيب غير الصديق الشاعر عبد الحميد جماهري، حين همس لنا بنبرة حزن فادح، لتحيا الحياة. كانت هذه الجملة البسيطة كافية كي نصحو من تلك الهوة السحيقة السوداء، ونستجمع قوانا لكي نكون في الموعد المحدد لقراءات شعرية في ذلك المساء الحزين في مهرجان حامل لرقم 13 اللعين... قرأنا قصائدنا ونحن في وضعية حداد، وكان اذكانا هو جماهري، الذي فضل ان يقرأ قصائد للراحل احمد بركات وهو لم يدفن بعد.. كانت اجمل تحية لروحه الطاهرة. ظل حيا وان غيب الثرى جسده، وحضوره يتمثل في الوقوف عند تجربته بين الحين والآخر، كما ان إسمه دائما يتردد في الملتقيات الشعرية والندوات بما فيه آخر دورة اكاديمية لبيت الشعرفي فاس في شهر ماي 2010 . هذا الحضور الحي هو الذي جاء علي لسان الاسطورة التي تقول: يعتقد أنه اذا مات فرد يبقي كائنا واعيا على نحو ما كان عليه وهو على قيد الحياة.. ان موته قد حال ببساطة بينه و بين الاتصال بالاحياء بطريقة يمكنهم التعرف عليها.. وروحه التي لاتزال واعية بصورة كاملة ومفعمة بكل الاشواق والرغبات الانسانية ترحل الى ارض الموتى الى أن تصل شجرة فراولة هائلة.. فاذا ما تناول شيئا من ثمارها فإن عودته عندئد الى أرض الاحياء والحياة تصبح امرا مستحيل الى الابد. اما اذا ابى ان يتناول شيئا فإن امكانية عودته تبقى قائمة، وبالنسبة للاحياء، فإنه يظل متمتعا بالرغبات البشرية العادية جميعا. اكيد ان بركات ، راجع وخير الذين وآخرين فطنوا منذ البداية الى هذه الشجرة الملعونة، فلم يهتموا بقوة جاذبية ثمارها.. لذلك بالمعنى الذي جاء في الاسطورة، فهم احياء بطريقتهم بيننا، بل ظلوا محافظين على شبابهم ونظارتهم ولم يتركوا للزمن فرصة التقاط صور لهم وهم شيوخ مع ما يكفي من اعطاب وأمراض مزمنة. هكذا حال لسان الاسطورة، مكمن اسرار وينبوع يقين. إضاءة وبشارة في ليل العتمات والآتي في المجهول. البيضاء في يونيو 2010 هذه الزاوية يعدها الزميل حسن نرايس