مغامرةٌ جميلةٌ هذه التي نركبها بترجمة هذا الكتاب. ومن جوانب الصعوبة في هذه المغامرة ما يواجه هذا النوع من الكتابات المترجمَ به من صنوف الصعاب والمعيقات، بحكم كثرة ما يثير من مشكلات، بله إشكاليات، لاتصاله بالحفر والمساءلة بقضايا لا تزال من صميم راهننا المغربي. إن من الصعب دائماً، أن نترجم كتاباً وضعه أجنبي في تاريخنا القريب، ولاسيما ما كان منه داخلاً في فترة ما قبل الاستقلال بقليل؛ تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب، التي لا نزال لا نعرف فيها، إلى اليوم، كتاباً جامعاً نسلم معه بشيء من اليقين. وأما الكتاب الذي آثرناه بالترجمة في هذا المضمار فهو كتاب «?الفرنسيون الأحرار في المغرب المأزوم»، الذي يُطلِعنا على صفحةٍ من العلاقات الفرنسية المغْربية، ظلتْ غير معروفة جيداً، مع ما هي عليه من أهمية وبروز في تاريخ القضاء على الاحتلال. صفحات سوَّدتْها حفنةٌ من فرنسيِّي المغرب، ساندوا، في الأزمة التي عاشَها المغرب في السنوات الأخيرة من عهد الحماية، مطلبَ المغاربة في الاستقلال، الذي اعتبروه مطلباً عادلاً ومحتَّماً ليس منه مفر. وقد انخرط هؤلاء الأحرار الطوباويُّون، المخالِفون للاتجاه الذي كان يسير فيه الرأي السائد عند مواطنيهم، انخراطاً لم يعْبأوا بما كان يحفل به من مخاطر؛ بما فيها المخاطرة بحياتهم، في معركة ?سلمية ساعدتْ على إحقاق الحق، كما كانتْ منشأَ صداقات ثابتة ودائمة بين هؤلاء الفرنسيين وبين الوطنيين المغاربة. وسرعان ما أصبح أحد المتدينين الفرانسيسكانيين؛ هو الأب جون بيركمان شابير، مشاركاً مثابراً في اجتماعات «مجموعة الدراسات والتفكير الاقتصادي والاجتماعي». وشابير قدِم إلى المغرب في سنة 1947، تحذوه «الرغبة في الاقتراب من العالم المغربي، و إذن المسلم». وقد خلَف الأب شابير بعدئذ مونسينيور أميدي لوفيفر أسقفاً في الرباط. ثم صار بعد ذلك أسقفاً في بيربنيان حتى سنة 1955 . وكانت ذكرى وزارته في المغرب هي أكثر ما علق بفؤاده من ذكريات، وقد استحْضرها في سنة 1940؛ فقال : «إن لقاءاتي الأولى في المغرب قد فتحت عيني على حقائق الأمور. وقد كان أول من اتصلت به من المغاربة طبيبٌ عملت وإياه مدة من زمن في مصلحة البرص. ثم تعرفت في ما بعد على الوطنيين (أمثال كريم العمراني وبن بركة... ثم كان اتصالي في الدارالبيضاء بمجموعة مسيحيين مؤتلفين حول روبير أوران. وقد كانوا يهتدون بروحانية الأب دو فوكو وروحانية قرينيه في المغرب الأب بيرغير، ناسك القباب، والأب بواسونيي، وهو دونه شهرة. فصرت أحضر الاجتماعات فأتعرف على من كان يحضرها من الأحرار، وقد صاروا لي أصدقاء، كأسرة شابوني وفيليكس ناتاف... ولم تكن هذه الاجتماعات تقتصر على المسيحيين وحدهم، بل يشارك فيها كذلك من كانوا يسمَّون «مناضلي اليسار»، وقد كان بعضهم من غير المسيحيين وليس يعني ذلك أننا كنا من «اليمين» (من حوار سجِّل في 2 فبراير 1994). ولم تلبث تلك المجموعة أن تعزَّزت بمناضلين مغاربة التحقوا بها طوعاً واختياراً. ولم ينس جاك جواني، بعد انقضاء أربعين سنة، تلك التداولات المثمرة للرأي التي نتجت عن تلك الاجتماعات، وقد قال فيها : «ما زلت أحفظ في ذاكرتي بقسماتِهم الفتية، إذ كانوا يومئذ في ريعان الشباب، قد جاءوا من شتى الآفاق، فكان منهم المنحدرون من فاس والمنحدرون من الرباط والمنحدرون من مكناس. وكانوا ينتمون إلى تيارات سياسية شديدة التنوُّع، فكان منهم المنتمون إلى حزب الشورى والاستقلال، وكان منهم المنتمون إلى حزب الاستقلال» (من رسالة 8 يونيو 1995). وقال مونسينور شابير مستخلصاً : «كنا نقلِّب التفكير جماعةً في المشكلات المغربية التي كانت تطرحها وضعية المغرب، ونفكر في الحلول الممكنة بما تملي علنا قناعاتنا» (من حوار مذكور). وجاء الأستاذ بوتان بتصوير لتكوَّن «السكرتارية الاجتماعية» التي قام بإنشائها في سنة 1950 : «السكارتارية الاجتماعية» مجموعة للدراسات والتفكير والبحث استعداداً للعمل. وقد كان انطلاق المجموعة من لاشيء. وهي تضمَّ بعض المنخرطين. وكانت أولى مبادراتها قيامها بالعمل التضامني لفائدة العجزة. وقد انتبهنا في تلك المناسبة إلى أن قدرَنا أن نتصدَّى إلى مشكلات العلاقات بين الحي المسيحي والحي المسلم. فقد كان المسيحيون يعانون من هذه المشكلةَ، لكنهم لم يفعلوا شيئاً في المدن، كما لم يحركوا ساكناً في البوادي. وقد لاحظنا أن تلك العلاقات كانت تكاد تقتصر على علاقات الشغل. ثم إذا المغاربة قد صاروا، في سنة 1952، يتردَّدون على «ملتقيات»نا، وقد كان الجو السائد فيها يفيض وداً» (ملاحظات سجلتها المؤلفة أثناء أحد تلك الاجتماعات، في ماي 1953). كان ذلك مبتدأَ الأسابيع الاجتماعية التي انعقدت في «لاسورس»، وهو مركز ثقافي خاص في الرباط. وقد كانت الهيآت العليا في الإقامة تعتبر الموضوعات السياسية موضوعات «تخريبية»، ما جعل الحيطة أمراً لازماً في تلك الاجتماعات، وكان من الضروري الاقتصار فيه على تناول المشكلات من الجانبين الاقتصادي والاجتماعي وعدم تجاوزهما. وبذلك اقتضى الأمر تحاشي المشكلات الجوهرية، وإلا فالاقتصار على مقاربتها بالإيجاز والتلميح. وقد اتفق للأستاذ بوتان أن تحدَّث في اجتماع للسكرتارية الاجتماعية حضرته في الرباط، في المشكلات الملموسة التي تعرفها العلاقات بين الفرنسيين والمغاربة، وتحدث عن المبادرات البسيطة التي تضفي التناغم على الحياة اليومية : اللباقة والمراعاة وكلمة «شكراً» تُقال للمنادي الصغير [على بضاعة]، والابتسامة نقابل بها بائع الصحف. ثم قال مستخلصاً : «إن الأمر كله يعود إلى مشكلة عقلية. ومن أجل الوصول إلى حلول إيجابية ينبغي أن نضع أنفسنا في موضع المغاربة، على جميع الأصعدة؛ بما فيها الصعيد الذي لا ينبغي لنا أن نتحدث عنه ههنا» (مصدر مذكور) . وقد قوبل هذا الكلام بموجة من الضحك من الحضور الذين أدركوا تمام الإدراك مغزى ذلك التلميح. إنها محرمات الحماية وضغط الرأي المهيمن. وقد كان مجرَّد عدم الظهور بمظهر الموافق على جميع الأفكار المسلَّمة يضع صاحبه موضع شك وارتباب. فقد قال مونسينيور شابير مستذكراً : «كانت مجموعتنا موضع ارتياب. وأذكر أنه أثناء أحد الصيامات الكبيرى ذهبت لإلقي محاضرةً في مكناس، غير أن ما قلت في تلك المحاضرة ، ولم يكن يمتُّ بصلة إلى ما يسمى بالموضوعات «التخريبية»، قد أفزَع الخوري، فمنعني من مصافحة الحاضرين عند الخروج. ثم لم يجد بداً من التعجيل بحملي في سيارته» (من حوار مذكور).