مغامرةٌ جميلةٌ هذه التي نركبها بترجمة هذا الكتاب. ومن جوانب الصعوبة في هذه المغامرة ما يواجه هذا النوع من الكتابات المترجمَ به من صنوف الصعاب والمعيقات، بحكم كثرة ما يثير من مشكلات، بله إشكاليات، لاتصاله بالحفر والمساءلة بقضايا لا تزال من صميم راهننا المغربي. إن من الصعب دائماً، أن نترجم كتاباً وضعه أجنبي في تاريخنا القريب، ولاسيما ما كان منه داخلاً في فترة ما قبل الاستقلال بقليل؛ تلك الفترة العصيبة من تاريخ المغرب، التي لا نزال لا نعرف فيها، إلى اليوم، كتاباً جامعاً نسلم معه بشيء من اليقين. وأما الكتاب الذي آثرناه بالترجمة في هذا المضمار فهو كتاب «?الفرنسيون الأحرار في المغرب المأزوم»، الذي يُطلِعنا على صفحةٍ من العلاقات الفرنسية المغْربية، ظلتْ غير معروفة جيداً، مع ما هي عليه من أهمية وبروز في تاريخ القضاء على الاحتلال. صفحات سوَّدتْها حفنةٌ من فرنسيِّي المغرب، ساندوا، في الأزمة التي عاشَها المغرب في السنوات الأخيرة من عهد الحماية، مطلبَ المغاربة في الاستقلال، الذي اعتبروه مطلباً عادلاً ومحتَّماً ليس منه مفر. وقد انخرط هؤلاء الأحرار الطوباويُّون، المخالِفون للاتجاه الذي كان يسير فيه الرأي السائد عند مواطنيهم، انخراطاً لم يعْبأوا بما كان يحفل به من مخاطر؛ بما فيها المخاطرة بحياتهم، في معركة ?سلمية ساعدتْ على إحقاق الحق، كما كانتْ منشأَ صداقات ثابتة ودائمة بين هؤلاء الفرنسيين وبين الوطنيين المغاربة. لم يكن الاستعماريون يروْن في تعليلات الأحرار، أياً كانت مصادرها، سوى تعبيرات متعددة الأشكال عن أدلوجة ماركسية، مخرِّبة، وكانوا يعتبرون أتباعها ومُشايعيها مستفزين خطرين. وحكى جاك بيرك، الذي كان في سنة 1934 عضواً في مصالح الإقامة، ثم أصبح في ما بعد مراقِباً مدنياً غيرَ امتثالي (وهذه نوعية نادرة جداً)، حكى عن التقلبات التي طبعت مساره المهني في كتابه «مذكرات من الضفتين» (1989)، قائلاً : «كانت اختياراتي تزداد مع الأيام ميلاً إلى اليسار؛ وكانت لي اتصالات بمناضلين مخلصين لقناعاتهم، ذلكم هم المسئولون عن صحيفة الكونفدرالية العامة للعمال «لوبوتي ماروكان»، التي كان يرأس تحريرها أنطوان مازيلا. بل إن الأمر بلغ بي إلى الانخراط في الكونفدرالية. وقد كان ذلك فعلاً خارقاً، إذ صرت عاراً على المراقبة المدنية». كان يُنظَر يومئذ إلى الشيوعيين في ريبة وانعدام للثقة. وهو ما أثار في نفس هنري روبير كازالي سخطاً شديداً، عبَّر عنه في كتاب له؛ إذ كتب : «كنت أتجوَّل في ربوع البلاد، وإذا بي أتوقف في إحدى القرى، وأستفسر من المراقب المدني عن عدد الفرنسيين المقيمين فيها. فكان جوابه عن سؤالي مما أثار دهشتي واستغرابي؛ إذ قال : «يوجد فيها سبعة، بالإضافة إلى شيوعي، يعمل معلماً» (من كتاب «جولة ميكولي»، نشر هورواث). ونحن نتصوَّر السخطَ الذي تملَّك وقتها هنري روبير كازالي، وهو ابن المعلِّم، والمنتمي، في جرأةٍ وشجاعة، إلى اليسار، بسبب هذا التمييز. وأما في ما بعد سنة 1952 فلم يعد للشيوعيين وجودٌ؛ ذلك بأن عملية كاريير سانطرال المأساوية (والتي سوف نعود بالحديث إليها في وقت لاحق) كانت ذريعة لإشراكهم في القمع، والحكم عليهم بالطرد والإبعاد. وقد كان أكثر عمليات الإبعاد فضائحية وتلوثاً بسوء النية واللاإنسانية ذلك الذي وقع على بيير بارن. فقد حلَّ بيير بارن بالمغرب في سنة 1916، وكان بعد ضابطاً في ريعان الشباب، يحظى بتقدير ليوطي. وقد كان أصيب خلال الحرب، فترك الجيش واستقر على مقربة من مدينة الدارالبيضاء في سنة 1933 . فكان يعامل عماله بالعدل والإنصاف. وقد بارن ارتبط بالمغاربة، حتى الوطنيين منهم، بعلاقات صداقة. ولم يتورّع عن إدانة واستنكار ما وقف عليه من مظاهر الحيف والجور على صفحات جريدة كانت تصدر في ذلك العهد؛ تلك هي «الاستقلال». فأصبح بيير بارن بذلك هدفاً لحقد الاستعماريين، الذين لم يكن من الغريب أن صاروا يرمونه ب»القائد الاستقلالي الشيوعي»، وهي عبارة كانت يومئذ جارية على الألسن في «سشم الأحرار». فقد كتب جاك بيرك : «في تلك الفترة لم يكن في إمكان الفرنسيين أن يقوموا بأي عمل غير استنكار التعسفات، وقد كان استنكاراً جديراً بالتقدير». والواقع أن المخاطر التي كانت تتهدَّد الأحرار لم تكن تنحصر في الإهانات والسب والشتم. فالأساتذة الثلاثة عشر الذين وقَّعوا في الدارالبيضاء في سنة 1952 رسالةً احتجاجية على القمع المفرط لمظاهرة عمالية تحوَّلت بفعل استفزازات رجال البوليس إلى فتنة وهياج، أدوا ثمن جرأتهم وشجاعتهم بمختلف العقوبات، التي طالت حتى غير المدرِّسين. فقد بادرت الإقامة العامة إلى طرد نحو أربعين من المناضلين النقابيين، والشيوعيين بين حقيقيين ومزعومين، وقد كان من بينهم بيير بارن، الذي لُفِّقت له في تلك المناسبة تهمة زائفة. فقد سبق لبيير بارن أن كتب في صحيفة «الاستقلال» : «توجد في المغرب وسائل أخرى غير إراقة الدماء». فعمدت مصالح الإقامة، في اتهامها لبيير بارن، بالاستشهاد بهذا النص، بعد تحريفه؛ إذ جعلتْه على النحو التالي : «لا توجد في المغرب وسائل أخرى غير إراقة الدماء». ولم يُتَح لبيير بارن أن يأتي بتكذيبٍ لهذا التحريف، فكان اعتقاله، ورمْيه في طائرةٍ حملَت المبعَدين، وقد وضعت الأصفاد في معصمه الوحيد؛ ذلك بأن بيير بارن، وهو الضابط الشجاع، كان قد فقد إحدى ذراعيه خلال الحرب....