محمد الاشعري احتفاء بجزء من ذاكرتنا الثقافية المشتركة ، واستحضارا لعطاءات مبدعينا وإسهامهم في إثراء رصيدنا الابداعي الوطني والعربي ، نستعيد ، في هذه الزاوية ، أسماء مغربية رحلت عنا ماديا وجسديا ، لكنها لاتزال تترسخ بيننا كعنوان للإبداعية المغربية ، وللكتابة والفن المفتوحين على الحياة والمستقبل. غادرنا الشاعر احمد المجاطي بنفس الهدوء الذي دخل به حياتنا مكملا بذلك دورة حانية وقاسية في نفس الوقت. ولان احمد كان يكره الكلمات الزائدة، والعواطف الزائفة، فإنني سأستحضر ملامحه معكم عارية من أقنعة الرثاء التي تصادر من الانسان حاجياته مرة ثانية، عندما تحنطه في بلاغة الفقدان والاشادة السهلة. ولعل أقصر طريق الى مكمن تلك الملامح الآسرة، هو استحضار عبوره بيننا بكل تلك القوة وبكل ذلك التوتر المكتوم او المعلن الذي كان دليلا عليه في الحياة كما في الشعر. عاش احمد المجاطي تجربته الشعرية بعذاب خاص لم يقتسمه مع احد فكتب قصائد شفيفة وصلتنا لوعتها في تلك الاصقاع البعيدة التي يمتزج فيها انكسار الانسان بقلق وجودي يسائل الكلمات والاشياء. كانت قصائد مبثوثة في شساعة صمت لم يتقنه احد سواه، صمت مزيج من انصات وغضب وحرية. هل كان مفتونا بحاجته الحميمية للشعر؟ هل كان مأخوذا في زوبعتها مجازفا بكل شيء من أجل لا شيء؟ هل كان يبني في مكان ظليل من ذاكرتها عشه الشعري خائفا ومترددا وحاسما؟! لا احد يعرف! كثيرون سيصرون على إشعال فتنته بتنصيبه ناطقا باسم خيباتنا، او بوضع زورقه في ماء هذا النهر الشعري الذي يتصور له بعض الناس ضفافا ومنابع ومصبا. سيقاوم كل ذلك بسخرية سوداء، ليذوب كل شيء في كمياء الضحك والهجاء المرهف. قبل ان يعود الى بحيرته الزرقاء الدفينة بحيرة الحروف والشجن. احيانا كثيرة كان شك احمد المجاطي يعذبنا شكه في اللغة والتجربة معا. ما معنى ان تكتب وتعيد، وتعيش ما تعتقده مصيرا مرصعا بالمواعيد؟ كان احمد يحتقر كثيرا في الشعر والنثر، وكنا نعيش على هامش ذلك وليس بسببه حروبا صغيرة ننتفض لها، او نطرب، الى أن تصبح مفتاحا لشكنا نحن الآخرين. فعلا، واذا لم تكن كل هذه الضجة التي نحسبها تعبيرا عن زمننا سوى وهم من الاوهام هل يمكن ان ننحت في صخر معيشتنا بقسوتها والتباساتها خيط ماء بارد، نزفه نشيدا من اجلنا، و من أجل الآخرين؟ سؤال نضعه متأخرين، فقد كان من الممكن ان نجعله تواطؤا بيننا وبين احمد، وربما كان كذلك كافيا للتخفيف من عذابه الخاص. ولكن الا يوجد الشعر كله في هذه المنطقة بالذات، منطقة الاسئلة المؤجلة والتواطؤ المستحيل؟ عندما قال المجاطي تلك الجملة اللامعة عن تلك العبارة المستحيلة (تسعفني الكأس ولا تسعفني العبارة) كان يضعنا جميعا في قلب المعضلة الشعرية التي يعيشها نسقنا الثقافي، وهو يحاول ابتكار لغة ملائمة للتعبير عن نفسه، في مستنقع من الاحتباس وسوء التفاهم. نعم نكاد نحتاج الى حروف اخرى لنحقق ذلك التصالح الصعب مع عباراتنا ومحيطنا واشباهنا. وما اكثر ما ننسى ذلك او نتحاشاه! ومع ذلك فإن احمد المجاطي سيباغتنا كعادة الشعراء في منعطف آخر، فوراء ذلك التوتر المضني الذي ساءل كل شيء، ووراء تلك الفورة التي هز بها شجرة الحداثة الشعرية معلنا إفلاسها، أو على الاقل معرضا بأوهامها كانت تنسج - أكاد اقول بالرغم منه - خيوط تجربة شعرية عميقة تقول عنفها و عذوبتها وحداثتها بيسر لا يفضحه عسر الولادات ولا شساعة الصمت المحيطة بالتجربة، وكأنما كانت هذه التجربة نفسها صوته الآخر المضاد الذي يبتكر جوابا لكل هذه الاسئلة بالشعر، وبالشعر وحده. سيمضي احمد المجاطي ذات صباح ممطر الى هدأته الاخيرة. كانت التربة تستقبله ممتلئة بسحاب مباغت لم يكن ينتظره احد وكأنها بذلك كانت تنحت آخر بسمة في وجه الشاعر. ولاشك أن اكثر من قصيدة قد اهتزت بها وربت تلك الارض التي لا يهددها شيء مثل جفاف الشعر.