انتهت ندوة محمد عابد الجابري برحاب المكتبة الوطنية صباح أول أمس، كما ابتدأت بالتأكيد على أن المسألة الثقافية عند صاحب «نقد العقل العربي» هي مسألة سياسية قبل أن تكون مسألة ثقافية صرف، لذلك كانت همومه السياسية مثل جلده، لا يستطيع الفكاك منها مثلما كانت خياراته السياسية من أصلب وفي صلب كل الجبهات التي خاض معاركه فيها. ففي هذه الندوة التي أدارها باقتدار المفكر المغربي محمد سبيلا، وساهم فيها كل من الأساتذة كمال عبد اللطيف، عبد الإله بلقزيز، برهان غليون، حسن حنفي وعبد السلام بنعبد العالي، تحدث كمال عبد اللطيف في مستهلها عن نزاهة الفقيد، وتموقعه في قلب اليسار الجديد، وعن المعارك الثلاث التي خاضها الجابري، وأولاها معركة تدريس الفلسفة والعمل النقابي في النقابة الوطنية للتعليم، ومساهمته الفعالة في أن يكون للفلسفة مسكن كبير في المغرب وفي الوطن العربي، كفضاء واسع للرأي والرأي الآخر وحرية التعبير والحق في الاختلاف. وثانيها المواءمة بين التراث والحداثة، حيث يمكن اعتبار الجهد الذي قدمه الجابري في هذا المضمار جهدا استثنائيا. وثالثها معركة العمل السياسي التي ظل الجابري دائما يخوضها، ولم ينقطع أبدا عن العمل السياسي، لذلك يخطئ من يعتقد أن الجابري انقطع عن الانشغال بالهم السياسي بمجرد تقديم استقالته من المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي سنة 1981، بل ظل مستمرا في العمل السياسي لأن إيمانه بتحديث المجتمع فرض عليه العمل على أكثر من جبهة. برهان غليون في مداخلته التي عنونها ب «الجابري وتأصيل الحداثة» انطلق من حيث انتهى كمال عبد اللطيف، إذ أشار في البداية إلى الهموم الأساسية التي حركت فكر الفقيد، وأولها التحرر من النموذج السلفي والحاجة إلى تفكير مستقل وعقلاني يقدم النقد على المحاكاة، لذلك فهو يسمي منهجه بالعقلانية النقدية، وثانيها السلطة المرجعية حيث كان منطلق الجابري هو وجود سلطتين مرجعيتين متصارعتين ومختلفتين، مما جعله يعمل على وحدة السلطة المرجعية، وثالثها هو الاستقلال التاريخي التام الذي هو الهدف والغاية، أي إعادة اختراع الحداثة وتأصيلها وتأسيس عقلانية جديدة، لذلك استحق أن يوصف بفيلسوف العقلانية الجديدة في الفكر العربي الحديث. من جهته اعتبر عبد الإله بلقزيز أن رباعية «نقد العقل العربي» تشكل معمارا، إما يؤخذ كله أو يترك كله، مؤكدا أن هناك أربعة محاور يمكن أن يتناول من خلالها مشروع نقد العقل العربي، أولها أن الجابري شكل منعطفا حاسما في دراسة التراث، إذ انتقل من نقد التراث، مثلما شكل ثورة في موضوعة البحث، وثانيها المنظومة المفاهيمية التي أعطت أفقا لأعماله، بحيث أن الموضوع عنده هو الذي يحدد منهجه، وثالثها الاستنتاجات التي وصل إليه ومنها أنه لا مفر من نقد العقل العربي من أجل إعادة تأسيس العقل. ورابعها أن مشروعه النقدي بلغ من الشمولية والموسوعية ما لم يصله مشروع آخر. أما الاستاذ حسن حنفي الذي تناول مشروع تفسير القرآن الكريم عند الجابري، فاعتبر أن مهمة أصدقاء الجابري وتلامذته الآن هي تطوير مشروع الجابري وليس تقليده، إذ أن شجاعته جعلته يقدم على ما لم يقدم عليه أحد، ففكر في العلوم النقلية بغية إخراجها من المقدس لإعادة النظر فيها بعقلانية، مثلما اعتمد على بعض الأمثال المغربية لتفسير بعض الآيات القرآنية، إلا أنه عند حديثه عن الغيبيات فإنه فعل ذلك بدون غطاء نظري، رغم أنه حاول استخلاص نظرية في تفسير النص القرآني. ومن مؤاخذات حنفي علي الجابري أيضا، أشار الى الموضوعات التقليدية التي تناولها، وعن تقطيع الخطاب النظري لفائدة النص، بالاضافة إلى كون الجابري معروفا بمواقفه الفكرية الثقافية والسياسية، لكنه في تفسيره للقرآن غيب التزامه الاجتماعي هذا ليغلب جانب الأكاديمي فيه على الوطني والسياسي. الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي نظر الى الجابري من زاوية المثقف العضوي عند غرامشي وزاوية الالتزام كما هو عند سارتر، مشيرا الى أن الجابري يفهم السياسة بمعنى التدبير وإعطاء الأولويات، لذلك تجند مع زملائه لبناء الجامعة المغربية، وخاض المعارك حول التراث، لأن الصراع حول التراث عنده هو صراع حول النص التراثي نفسه، فالتراث الذي يعني الكنز المدفون والدخائر هو محل صراع واحتكار، لذلك فهو أقرب الى السياسة، وتأويل التراث هو صراع طبقي على مستوى النص. وقد عمل الجابري من أجل إقرار شيوعية النص التراثي، ليخلص التراث من أسره واحتكاره، ليصبح ملكا للجميع، وما تكون السياسة إن لم تكن إعطاء الحق للجميع؟