أجمع المشاركون، في ندوة نظمت اليوم الأربعاء بالرباط، حول أعمال المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري، على أن فيلسوف العقلانية الجديدة في الفكر العربي نجح في أن يرسي مشروعا فكريا نهضويا تنويريا ضخما. وأكدوا في هذه الندوة الفكرية التي نظمها اللجنة الوطنية لتأبين الفقيد أن المفكر المغربي الاستثنائي ذا الأفق العربي والإنساني تمكن من تشييد معمار نظري متكامل استطاع رغم مرور السنين أن يحافظ على صموده وشموخه، وأن يؤسس لمدرسة فكرية تدعو للعقل من خلال إعادة قراءة التراث بأدوات نقدية وتحليلية. كما أوضحوا أن الفقيد، الذي انتصر على الدوام لقيم النقد والحداثة والتحرر والعقلانية، ظل طيلة حياته منخرطا في دراسة معطيات الواقع المغربي والشؤون العربية بكثير من الإخلاص والحماس والمسؤولية، ومسجلا حضورا متنوعا ما بين الالتزام السياسي والأكاديمي والفكري. وفي هذا السياق، أوضح الأستاذ كمال عبد اللطيف، في عرض "جبهات ومعارك في المسار الفكري للجابري"، أن الجبهة الأولى التي حارب فيها الراحل تتمثل في معركة تأسيس الدرس الفلسفي بالجامعة المغربية، مضيفا أن الراحل خاض تجربة صياغة برامج منفتحة على أحدث المناهج التربوي بالإضافة إلى تأطير الطلبة وإشرافه على بحوثهم. وأضاف أن المفكر المغربي الراحل خاض أيضا معارك في جبهة التراث الذي كان يعتبره ذاكرة جماعية و"حمال أوجه" يتعين إعادة قراءته على ضوء أسئلة العصر، واستعادته حتى لا يظل حكرا على فئة تعيد قراءته بطريقتها الخاصة، مبرزا أن الفقيد وظف الموروث لكي يمنحه حياة جديدة ضمن أفق الحداثة والعصرية. واعتبر الأستاذ كمال عبد اللطيف أن الجبهة الثالثة في مسار الفقيد المتمثلة في العمل السياسي تشكل الجبهة الصلبة في مشروعه، موضحا أن الهم السياسي كان مهيمنا على الجابري الذي كان منخرطا في اليسار المغربي والعربي وفي المشروع القومي العربي، ليخلص إلى أن شخصية الجابري الذي كان مهووسا بتحديث العقل والوعي العربيين اجتمعت فيها الوحدة العضوية بين المناضل السياسي داخل حزب سياسي وبين المفكر والأستاذ الجامعي. من جانبه، اعتبر الأستاذ عبد الإلاه بلقزيز في عرض حول "مشروع نقد العقل العربي في المشروع الفكري العربي"، أن مؤلف "نقد العقل العربي" له مكانة متميزة في الفكر العربي لأنه نجح في أن يقدم رؤية إجمالية لنقد العقل العربي عبر التحرر من التراث والغرب والدعوة إلى عصر تدوين جديد. وأوضح أن الفقيد كانت له قدرة متفردة على السيطرة على المفاهيم التي كانت تتيح له السيطرة على الموضوع عبر السعي إلى القيام بنقد العقل العربي يطمح في أن يشكل معبرا ولحظة معرفية لإعادة بناء العقل على أسس معرفية جديدة. وأشار الأستاذ بلقزيز إلى أن الفقيد كان يؤمن أن تحقيق هذا المسعى لن يتأتى إلا من خلال تدوين عربي جديد يتحرر فيه العقل العربي من القياس ومن سلطة النص وسلطة نموذج السلف وسلطة التجويز. وخلص الأستاذ بلقزيز إلى أن الجابري ظل وفيا في رباعيته "تكوين العقل العربي" و"بنية العقل العربي" و"العقل السياسي العربي" و"العقل الأخلاقي العربي" التي تشكل مادة مرجعية كثيفة وموسوعة ثقافية ضخمة ومنعطفا حاسما للتراث عبر مطالبته بقراءته بعقل نقدي. من جانبه، أكد الأستاذ عبد السلام بن عبد العالي في عرض حول "سياسة التراث" أن الفقيد كان يمارس السياسة في الثقافة لأن المسألة الثقافية بنظره هي مسألة سياسية عقلية وتدبير قبل أن تكون مسألة أكاديمية صرفة. وأوضح أن هذا التوجه يلقي الضوء على كيفية التعامل مع التراث لأنه كان يسعى إلى "شيوعية تراثية" تعمل على أن لا يظل التراث محجوبا وبعيدا عن الناس ، خاصة وأنه ظل على مر السنين موضوع تنافس واحتكار وتملك من طرف فئة معينة، ليكون التراث بهذا المعنى أكثر قربا من السياسة. وعزا بن عبد العالي مؤاخذة الجابري على عدم مراعاته دائما القواعد الأكاديمية من خلال إثقاله لمؤلفاته بالاستشهادات، إلى حرصه على وضع التراث أمام الجميع وتقريبه من الحاضر. وأوضح أن الراحل خلص التراث من أسر النص التقليدي وجعله في مستوى "النحن" وأعطى الحق في تملكه للجميع ليظل الجابري بذلك وفيا لقناعته في أن "السياسة تعني أساسا إعطاء الحق للجميع".