انطلقت دعوة رسمية من لدن الوزير الأول إلى فتح استشارات حول الإصلاحات السياسية في البلاد. واختار عباس الفاسي منبر البرلمان ومناسبة التصريح الحكومي ليعلن ذلك. هناك ملاحظات تساير السياق الذي وردت فيه هذه الدعوة: 1- هذا الرد السياسي يعطي معنى لمستقبل تدبير الشأن العام في بلادنا.فليس الأمر محض حرص على تدبير قطاعات اقتصادية واجتماعية تستجيب الى قوانين العرض والطلب ومهام «الوظائف السامية»، بل هو أفق لممارسة الفعل السياسي في بلادنا، وأفق لخلق الحلم الجماعي في مغرب،ممكن وقابل للبناء.. 2- التصريح يطرح البداهة نفسها من باب اليومي السياسي. لقد كان المغرب ولا يزال في حاجة للاصلاح، وهذه البداهة تغيب أحيانا عندما تطغى عليها بعض الاعتبارات السياسية المرحلية. وعندما يعود النهر الى مجراه، فذلك دليل على أن منطق الاصلاح لا يمكنه أن يسلم بنهره لفائدة مياه أخرى لتسيل تحت الجسر..! 3 - منذ ثلاث سنوات، كان الاتحاد الاشتراكي يقول بأن الإصلاحات ضرورية، وبأن ما أفرزته انتخابات 2007 يستحق بالفعل جرس الإنذار .. ومرت السنة ومرت التي تلتها.. وكانت القراءات لموقف الاتحاد تريد أن تحشر الهدف الوطني والديمقراطي ، من وراء ما يقدمه، في الزاوية الضيقة للمصالح الحزبية أو في ردة الفعل التي تلي مباراة في كرة القدم. وهناك من كتب أو صرح أو لمّح إلى أن المطالبة بالإصلاحات، من لدن الاتحاد هي لِلَيّ الذراع للدولة أو للأحزاب أو للوزير الأول.. كما لو أن الانتقام هو الرد الفعلي على الأزمة. كثيرون أغفلوا ما عاشه الاتحاد نفسه والثمن الذي دفعه من دمه ولحمه ومن انسجامه وطمأنينته، وفضلوا أن يهربوا إلى هوامش الحساب الصغير. وكان للاتحاد أن يعلن أزمته ويعيشها على مرأى من العالم: أما الذين في قلوبهم مرض فقد وجدوا في ذلك دليلا لتذويبه في هلامهم، وحجة على أن الاتحاد يعيش اختلاجات نهايته . وأما الذين ينصفون فقد قالوا الكلام الذي يجب أن يقال، واعتبروا أن الاتحاد اتخذ الموقف الذي تفرضه النزاهة الفكرية والالتزام الوطني والديموقراطي..وقد بدا أن الاتحاد كما لو أنه يرفع سقف المطالب من أجل التعجيز. والحال كما يقول جاك شابان ديلماس «لا نصل إلى تحقيق الإصلاحات إلا إذا تظاهرنا بأننا نسعى إلى الثورة..» وعندما قال الاتحاد بالإصلاحات السياسية والدستورية، عادت الأسطوانة إياها من جديد. بدت البلاد خفيفة للغاية، لا تزن وزن ريشة تكتب أي شيء، وفم مفتوح على عواهنه (ومعيليه طبعا).. وحدهم العقلاء والذين يحبون بلادهم أبعد من أرنبة أنوفهم، كانوا ينصتون إليه، بعيدا عن شطرنج السياسة وتعتيم المحافظين: هؤلاء المنصفون رأوا في دعوة الاتحاد الاشتراكي نبل المحارب الذي يقول الحقيقة حتى ولو كانت الحرب تدور ضده بلا هوادة. ولم يختر الاتحاد الاشتراكي أن يعزل نفسه في تعالٍ استيهامي وبارانويا سياسية، بل اضطر إلى أن يقول كلمته.. ويعيدها. 4- رفع الاتحاد مذكرة الإصلاحات إلى السلطة العليا وملك البلاد، كان يدرك بأنها خطوته التي يجب أن تكون، تقديرا للبلاد ولمصلحتها ولتحليل قام به، قد يكون صائبا كليا أو جزئيا أو له فقط حسنة المحاولة في عز التردد والالتباس. (ومع ذلك هناك من شكك في هذه الخطوة أو في وصول الرسالة، وطالبونا بأن نقدم لهم وصل الإيداع وتوقيع المستلم !! كما لو أن البلاد ليست لها تقاليدها وأعرافها وحقوقها وأخلاقها التي ضمنت دوما للسياسة رفعة ما أو سمة ما من سمات التاريخ الدائم). ومع ذلك صبرنا على كل ما تقدم ..... بعد 2007، انطلقت الأحزاب السياسية من منطلقات مغايرة ومن تحاليل مغايرة، وبعد ثلاث سنوات، وتسعة انتخابات (مهنية، جهوية، سياسية...) تبين أن الطريق الوحيد الذي يمكن أن نواصل فيه السياسة والطريق معا، هو طريق الإصلاحات.. قد يكون المغرب اختار بالفعل السياسة التي عليه أن يسلكها اليوم وهي أن يتعامل مع ما هو حتمي ولابد منه، أي الإصلاح...! كان منطلقنا بسيطا للغاية:إن كل شخص يرفض أن يستعمل أدوية جديدة، عليه أن يتوقع الألم من جديد ، ذلك لأن الانتخابات- والمفسدين فيها بالاساس - من كبار المبتكرين والمبدعين لآلام الديموقراطية.. وفي هذه الحالة فقد كان ايدموند بيورك على حق (1729-1797) وهو يقول بأن الدولة التي تكون عاجزة عن انجاز التغييرات، دولة لا تملك وسائل البقاء..لأن وسائل الدولة في البقاء هي.. التغيير! إن أتعس السياسيين هم أولئك الذين يكونون في السلطة، ولا يكونون بالقدر الكافي من الانهيار لكي يظلوا غير مبالين بما يحدث من آفات ومن سقوط، ولا هم بالقدر الكافي من الشجاعة لكي يصلحوا الشطط والانفلاتات والآفات.. والمصلح في بلادنا لا يمكنه أن يكون تعيسا، خاصة وأن الاصلاح هو التدرج، وتاريخ الاصلاح في البلاد هو القبول بإصلاح مناسب يسمح بإصلاح أفضل منه في المستقبل على معجزة لن تتحقق.. وفي السياسة لا نحتاج الى قديسين، بل إلى مصلحين وإصلاحيين.. ونحتاج من القديسين الحكمة وبيداغوجيا الاصلاحات. 5- كان لابد من الإقرار بأن الارادة وحدها لا تكفي، بل على الدولة أن تؤمِّن لنفسها القدرة على القيام بما تريد. وفي هذا الباب ربما نفهم سعي الاتحاد من أجل أن تكون هناك بيداغوجيا للاصلاح تعتمد على الحوار الوطني والاستشارة الجماعية. وهو حوار جاء بعد ال2007 ثم اعتمد بعد 2008 بعد تبني المؤتمر الثامن له.. وتبين من بعد أن ذلك أيضا مسلك لدى الجميع، بالاستشارات الموسعة في القضاء وفي الجهوية وفي البحث عن قواعد اللعب التي تجمعنا كلنا.. فقد كان لابد من توضيح الرؤية أولا، ثم العمل على الاصلاح ثانيا.. وككل ديموقراطية، فإن الديموقراطية التي نسعى الى بنائها لا يمكنها أن تكون مستقرة وتضمن استقرارها إلا... بالحركة، أي بالتوجه الدائم الى الاصلاح.. (في عدد الغد أجندة الإصلاح المعنوي للناخب)