لا تتوقع أن تعطيك إيثاكا ثراء. لقد منحتك إيثاكا الرحلة الجميلة، فما كنت تخرج إلى الطريق لولاها.» إيثاكا قسطنطين ب. كافافيس ترجمة : د. نعيم عطية هذا ما كان (1) ماذا يستطيع الشعر؟ السؤال سرمدي . والبراهين عابرة. أنا أحار. من جهة، الشعر: «إقامة باذخة في أرجاء الصمت» ، « يبدأ من العدم»، « استحالة قول شيء ما» (بلانشو). ومن جهة ثانية، الشعر: « سهر عند حافة اللغة» ، « صاعقة تضيء الروح» ، « منزل الكائن» ( هايدغر). إزاء هذه المفارقة، غير مجد بتاتا أن أسأل : كيف أصبحت شاعراً؟ لِمَ أسأل والشعر منذ أن كان وهو ما يصعب تفاديه؟ عند الأسوء ، هو ما يظل في انتظار ذاته. لا هو مهنة. ولا هو ناجم عن قرار مسبق . في الشعر، حتى القناص الماهر لا يعرف ? دائماً ? أصول الطرائد. (2) لولاهن ، لولا الألف والباء والجيم والدال، هل كنت سوف أقضي شهر العسل في دارة جلجل؟ أو كنت سوف أجعل من علامات الترقيم خليلات، ومن بلقيس جامع نص؟ لا أظن . ولكن، قبل هذا، أنساءٌ هن أم جزر أم بحيرات؟ للحقيقة : حروف هن. ولكن فيهن المتجردة والبهكنة ونؤوم الضحى. ثم أخريات: متمنعات، يمضغن الكلام، وترتطم عند زعانفهن الأشرعة . فيهن أيضا امرأة قدرية: بينلوب. فيم أشك إذن؟ الحروف نساء. واللغة امرأة قدرية. للحقيقة أيضا، كأن اللورد بايرون ( 1824 -1788 ) خطفها من لساني حين قال : « ليت للنساء فما واحداً ، إذن لقبلته واسترحت». (3) هي إيثاكاي. فاس: الجزيرة والأرخبيل. فاس التي كلما ابيضت فيها عيناي رفعتُ - كالقراصنة - علما أسود. ثم رميت، في الهواء، كأسي وأنا أقول للقالق: تعالي. عششي في مكاني. فاس التي دائماً على طرف لساني: أكثر من إلياذة، أكثر من أوديسا، أكثر من امرأة قدرية. (4) فوق شاهدة لسان الدين بن الخطيب: « مال نجم الكأس» فوق شاهدة أبي : ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) ( سورة لقمان ، الآية 34) فوق شاهدة أمي : ( ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ( سورة القلم ، الآية 1) فوق شاهدتي : « الشعر أو الموت» دائما، الرحيق أقل (1) ليست الغرزة كالغرزة. في الشعر، ينبغي أن تكون الغرزة مدفونة. على الأقل بمقتضى «قانون اقتصاد القوى الحية». هذا هو حال الشعر: عرق كثير وقطاف قليل. ولذلك أيضا لم يخطئ ريلكه وهو يتصور أن الشاعر يكون محظوظا للغاية إذا ما هو نجح في جعل أبيات قليلة، عشرة على الأكثر ، تعيش من بعده. أحيانا أقل. بهذا يصير الشاعر وشعره كلاسيكيين، ليس استناداً إلى المفهوم المتداول للكلاسيكية ( عقل، قاعدة، محاكاة ) ولكن إلى المدخل الذي يحدد معنى « كلاسيكي» في: « ما يستحق أن يكون موضوع دراسة في الفصل». ( Ce qui mérite d?être étudié en classe ) حين يحدث هذا يكون الشاعر قد نجح فعلا في مقاومة الزمن، وفي كسر شوكته. كيف ؟ هذا سؤال آخر. الآن، ما من شك في أن الذين تحايلوا أكثر على الإشفى، وتركوا « أعمالاً كاملة» ليسوا شعراء فحسب. هؤلاء سحرة . لعلهم أنبياء . أو ? لربما ? خرازون ليس غير، ولكن من الطراز الرفيع. ياويح من كان مثلي! أنا، حتى وإن سبقت الريح من سوف يضمن لي أن أسبق الزمن؟ باشلار! هل أنا الذي أخطأت؟ أم أنت الذي تقول : « حين يتعلق الأمر بكتابة حماقات فإن كتابا ضخما سوف يكون في المتناول بسهولة مفرطة» ؟ ( Quand il sagit d?écrire des sotisses, il serait trop facile un gros livre). (2) كان الإسكندر المقدوني لا ينام إلا وتحت مخدته سيفه. بالعكس، كان المتنبي لا ينام إلا وتحت مخدته ديوانه. مم كان يخشى؟ ممن؟ من النحاة؟ من اللصوص؟ من القتلة؟ لا. ولكن، قبل كل شيء، من أن ينام وبعض أقواله لم ترق بعد إلى مصاف « الشوارد». هو لم يكن إذن ? بخلاف ما زعم ? ينام ملء جفونه. في الحقيقة ، كان يشتغل على شعره بالليل وبالنهار، في الحلم وفي اليقظة، بالفتيلة والقنديل، ثم بالحذف أساسا . كل هذا من أجل كتاب واحد: « ديوان المتنبي» . عجبا! حتى في الشعر: الكتاب واحد ، والشروح متعددة. في هذا الباب كتاب سيبويه (قرآن النحو) ليس استثناء . ولا الإنجيل. (3) والت ويتمان، هو الآخر، قضى سحابة عمره وهو يشتغل على كتاب واحد: «أوراق العشب». « أوراق « ( طروس؟) بالجمع، و» العشب» ( عشب الخلود؟) بالمفرد. هاهنا كذلك: الكتاب واحد والطبعات متعددة. ولكن، من طبعة إلى طبعة: قارات تظهر وأخرى تزول. هكذا هي حكمة الصلصال. كل شيء وتاريخه، حتى الأشياء الزائلة كان لها معنى وما يزال. (4) ما معنى هذا التعريف: « الشعر تحويل خيميائي للغة»؟ عندي ، لا معنى له إذا ما روعيت فقط القيمة المعطاة سلفا لهذا المعدن أو ذاك. عملية « التحويل» في حد ذاتها هي الأهم، ولكن في ضوء قول ابن عربي : « القطرة إذا لم تحتو المنبع لا يعول عليها». ما عدا هذا، سيان قطرة من ذهب أو قطرة من نحاس. أليس هذا بالذات هو ما كان يرمز إليه بورخيص وهو يؤلف « كتاب الرمل» ؟ من قراءتي الأولى: الذرة كون قائم بذاته . والكون كله ذرة ليس غير. هاك الكتاب. اقرأ. وقل لي. قبل بورخيص كان طموح مالارمي أن يحقق حلم الخيميائيين القدامى: إنجاز «العمل الكامل» ( Le Grand ?uvre) أي حجر الفلاسفة، أو مرادف « الكتاب» ولكن بحرف التاج. حلم وأي حلم! غير أن الباب كله من العاج. وما من يقظة دون أن يسمع المرء حتى قبل أن يفتح عينيه: «هيهات!». والبرهان: في آخر « رمية نرد» يحدث الطوفان ولا يكتمل» العمل» . ما العمل إذن : تحويل الحلم إلى حقيقة؟ أم تحويل الحقيقة، إلى حلم؟ (5) سؤال آخر: ماذا يريد الشاعر بالضبط وهو يستعمل، فوق أرض الشعر، أكثر أدواته إيلاما: المحراث والمسحاة والقادوم والمذراة والفأس والمنجل؟ أحيانا يستعمل حتى المدوس والمزبر والغربال. والأدهى أن يكون الشاعر أصلا من المقلين، أو أن تقف العبارة في حلقه فلا تسعفه بإصدار أكثر من ديوان واحد. في الشعر المغربي المعاصر حالتان، على الأقل : « الفروسية» لأحمد المجاطي، و « رماد هسبريس» لمحمد الخمار الكنوني. للوهلة الأولى، وراء كل تجربة هاجس مختلف. هاجس «الفروسية» : القصيدة الجيدة . وهاجس « رماد هسبريس» : العبور. في العمق، الهاجسان معا يتقاطعان . عند أحمد المجاطي، حتى الصهيل الميت أمسى ( في سنة 1966) دخانا، ثم بعد ذلك (في سنة 1987) سرابا. في المقابل، أغلب قصائد محمد الخمار الكنوني نشرها متفرقة تحت عنوان واحد : « قصيدة « ، ثم كتب « قصائد إلى ذاكرة من رماد» . وفي الأخير نشر « رماد هسبريس». في الحالتين إذن، ثمة جسر متحرك : بين النطفة والسلالة. بين النار والرماد. أين قوس قزح من كل هذا؟ تارة حزام للأنثى . وتارة مجرد قناع. (6) باب محروق: كم مر من وقت والشعراء - ثمة - يلعبون بالنار أمام أعين القتلة ! (7) للتحويل مدخل آخر : التقطير. نقطة. ثم رجوع إلى السطر. وفي أوله، بحروف مائلة، مقتطف مما قاله لا فوازيي ( 1794 -1743) . تليه ترجمة ليس من الضروري أن تكون حرفية . « الحرف يقتل «. إذن : « Rien ne se perd (...) Tout se transforme » ( لا شيء يضيع (...) كل شيء يتحول) : الأمشاج إلى نطفة، والأنساغ إلى رحيق. أيها الترجمان الأخرس ! ما أغباك وأنت تحملق، ولا سيما في نقط الحذف. بالله عليك، دعك من نظرية الانفجار العظيم. ولاحظ معي : بين « رحيق» و» حريق» جناس بالقلب. جناس إلى حد التطابق. من حقي إذن أن أرنو إلى النص وكأنه شجرة تفوح وتحترق في آن واحد، ولو في إهاب لوح طيني سحيق. شجرة تلك أم غابة ؟ لا فرق. النص مفاعل نووي. بهذا المعنى اشتغلت على النص بصرف النظر عن طباعه وسلوكه. وبهذا المعنى أيضا انتقلت من القصيدة إلى الديوان ثم إلى المجموعة الشعرية، خطيا وشاقوليا. هاجسي في كل مرة: فحص تقني، وتغذية راجعة . لم لا وفي عمل الشاعر شيء من عمل النحل: المادة مختلفة والغريزة واحدة؟ في كلتا الحالتين ينبغي توفر حافز كيميائي ( catalyseur) ، وإلا فإن العناصر سوف تظل على حالها: مشتتة ومتنافرة وعاجزة عن لم شعث ال(لا) معنى. على هذا الأساس لم يكن قصدي ? مثلاً ? من وراء « ليتني أعمى» لا إنجاز « مختارات» (morceaux choisis) ولا إصدار «أعمال كاملة» ( ?uvres complètes) . كنت ? بالأحرى ? أجرب، شعريا، صيغة مؤقتة (بروفة ؟) من « عمل» أهم ما فيه هوامشه . أي ما يرسم حدوده، ويعطيه هويته : هوية « الكتاب» (Le livre) سواءٌ باعتباره صراطا أو باعتباره متاهة. بالطبع، ليس من منظور أن « كل شيء مكتوب سلفا « . ولكن تمشيا مع إحدى ضرورات الكتابة: الترهين. أصلا، الكتابة ذاتها ضرورة . ولأنها كذلك فإنني لست ملزما هاهنا بقول لماذا. لقد سبقني أنجيلوس سيلسيوس (1677-1624) وقال : » La Rose est sans pourquoi « « الوردة وردة وكفى، أي بدون لماذا». لا اعتراض. لي تعقيب صغير فحسب، وفحواه: في الشعر، حتى « لأن» ليست ذات موضوع. أسحب ما قلت إذن. أسحب « لأن». باب المجازفة (1) ذلك باب البحر. منه خرج الفينيقيون نحو الأعالي: نحو الأبدية. ونحو الأبجدية. من قبلُ، الأفق كان رهينة. والمياه عمياء. ثم قفزت الحروف من بين أصلاب السديم. تارة في رشاقة الدلافين. وتارة في نزق الأشرعة. نزهة تلك؟ أم معركة فوق الماء؟ (2) على الأرجح : اللغة والإنسان من نطفة واحدة. لن يكون بمحض الصدفة إذن أن تبدأ كلمتان قياميتان من عيار « ميلاد» و «موت» بحرف واحد: حرف الميم. لماذا؟ في هذا الباب قد تأخذنا لعبة التأويل إلى ما وراء البحر، لا سيما ونحن ما زلنا لم نقس ? بدقة ? ما بين المد والجزر. ما بين المرفأ والمرفأ. وما بين المتاه والمرجع. صدق من قال: قبل القفز على أي حاجز ينبغي قياسه. ليت شعري كم يلزم من قفزة بين «شرح الأشموني» و « حاشية الصبان» ؟ أنا، كفى بي ما كان بالإمكان أن يقال ولم يقل. (3) في « الجمطرية» ( حساب الجمّل) قيمة « ميم» العددية 40. رتبته في الأبجدية 13. ورمزيته ذات حدين: الإفراط والتوازن. ها هو المعجم. في جدول : طوفان، حِجر صحي، إغواء، علامة تحديد السرعة . وفي جدول آخر: سن الرشد، نزول الوحي، النابغة الذبياني . ماذا يقول المربع السيميائي؟ للإيضاح، أضع فوق كتفٍ حمامة نوح، وفوق كتفٍ غراب إدغار ألان بو. وأرى كيف ينشق أديم الماء. ثم يكون ما يكون. كاف. لام. ميم. نون. يستوي في هذا الماء والمداد. هنا وهناك، لا مناص. المخاض عسير. والولادة قيصرية . ولا سيما في سن الأربعين. ما أعجبني ! أتكلم وكأنني ما زلت في سن الأربعين . لا . أنا على مشارف الستين أما الكلام ها هنا ففي سياق مرور 40 سنة على نشري لأول قصيدة ( في صفحة « أصوات» ، جريدة «العلم» ، يوم 23 فبراير 1970) . بعبارة أخرى: أنا الآن على مشارف حرف آخر: حرف السين، بكل ما يحمله من رمزية عددية ومن دلالات مختلفة. هو في الهيروغليفية : جذع شجرة. وفي العبرية: سند . أما في العربية فتلك أسنان القرش أو أدهى. فعلا، لقد تقوس الظهر، وشابت النواصي ، مهما يكن ، الشعر سندي . أقبّل الأرض. (4) بين يومين : يوم الأرض، في ذكراه الأربعينية ( 22 أبريل) ويوم الكتاب ( 23 أبريل) قرأت من جديد كتابين : « الغصن الذهبي» و» كتاب الطريقين» . قرأت ما قرأت . وفي الأخير، دسست الكتابين معاً تحت إبطي ، ثم جلست تحت أقرب شجرة . وكتبت : « فوق أرض الشعر، اللغة ليست حذاء. اللغة قدم» . هكذا لن أفقد شمالي. فاس في 2010 IV 24 * - مداخلة أُلقِيت بمناسبة تقديم كتاب : « محمد بنطلحة ، شاعر الأعالي» [ مقاربات نقدية إعداد : عزيز الحاكم] في لقاء مفتوح نظمته مؤسسة نادي الكتاب بالمغرب ضمن مهرجان فاس المتوسطي للكتاب، وذلك يوم 24 أبريل 2010 .شارك في اللقاء: الأستاذ بنعيسى بوحمالة ، والأستاذة ثريا ماجدولين. -