من المؤكد أن إشكالية علاقة المثقف بالسياسة تطرح عدة أوجه من المقاربة و التحليل، لأنها متعددة الأبعاد و الجوانب، غير أن ما أريد مناقشته في هذه الورقة، هو ما يسجله اغلب المراقبين بخصوص النفور التدريجي للمثقفين في المغرب من خوض غمار السياسة، و خاصة من تقديم ترشيحا تهم للانتخابات التشريعية و الجماعية. لقد طفا على السطح في السنوات الأخيرة هذا التوجه، و الذي انعكس في تشكيلة الهيآت المنتخبة و المستوى الثقافي لعدد من الذين يتولون المسؤولية فيها، كما أنتج كل هذا ثقافة سياسية جديدة، أصبحت فيها القدرة على التجييش فيها هي العملة الرابحة، بغض النظر عن مستوى المرشح وكفاءته و دفاعه عن برنامج جدي و قدرته على التنفيذ و الإبداع و الابتكار... و لعل النمط الانتخابي السائد يساعد على تضخيم هذه الجوانب السلبية في الممارسة السياسية، حيث يتم التركيز على الأشخاص و على علاقاتهم المباشرة مع الناخبين، مما يغيب كل الأدوات الأخرى، الضرورية في الفعل السياسي من تصور واضح للحاجيات و الأهداف و الوسائل، لتتحول العملية إلى مجرد علاقات زبونيه ترتبط بتحقيق مصالح لمجموعات، تنتظم في شبكات، تحقق هدفا معينا في ظرفية و تتغير ولاءاتها حسب تغير المصالح. و انطلاقا من هذا، فإن العملية الانتخابية انحدرت إلى نوع من تجميع للأصوات على أسس نفعية، و كذلك دينية، ضمن شبكات عقائدية و خيرية، و قليلا ما أصبحنا نجد منتخبين فازوا بالمقعد اعتمادا على برنامج حزبهم و قوته التنظيمية. و ما يمكن إن نقوله في هذا الصدد، هو أن الانتخابات كممارسة ديمقراطية، تفترض أن تعكس الطاقات الفكرية و التجربة و الكفاءة في التسيير للمرشحين، مما يتطلب تكوينا وتدريبا و قدرة على التعامل مع مختلف الإشكاليات المطروحة، بخلفية سياسية و فكرية مستندة إلى حمولة معرفية. و ما يهدد اللعبة الديمقراطية هو أن يتم تشويهها بتدخل عوامل أخرى، لا ديمقراطية بطبيعتها، مثل استغلال حاجة الناس إلى خدمات عمومية هي أصلا من حقهم كمواطنين، أو استعمال العقيدة الدينية لاستمالة الناخبين، او تقديم عمل خيري بمقابل انتخابي، بالإضافة إلى استعمال المال لشراء الأصوات... كيف يمكن للمثقف ان يتموقع في هذا المناخ؟ أين يمكن أن يجد نفسه؟ حتما، إن اغلب المثقفين ينفرون من قوانين هذه اللعبة المشوهة، إذ لا يقبلون حشر أنفسهم في مثل هده الطرق و الأساليب غير الديمقراطية، و إذا حاولوا ذلك، فعليهم أن يدخلوا في لعبة تشكيل الشبكات الزبونية و النفعية و تقديم رشاوى لشراء الأصوات. و لا يمكن للمثقف، الحامل لقيم النزاهة أن يصبح «محترفا» للانتخابات في النسخة البشعة التي اخذت تبرز في السنوات الأخيرة في المغرب، و التي تمت إدانتها من طرف كل الأحزاب الديمقراطية. و اذا كان لكل هذا تأثيره السيئ على التمثيلية الديمقراطية، فإن النتيجة الحتمية على الهياكل الحزبية وخيمة أيضا، إذ أن المثقفين، يجدون أنفسهم مجبرين على التخلي على الدخول في اللعبة الانتخابية، و مهما حاولت الأحزاب الديمقراطية تقديم مرشحين لهم مواصفات الكفاءة الفكرية، فإنها تجد صعوبات في ربح أصوات الناخبين، الذين يذهب عدد كبير منهم إلى مكاتب التصويت تحت تأثير المال او الشبكات الزبونية و النفعية، و في أحسن الأحوال، الخيرية و الدينية. لذلك تحاول الأحزاب توفير مرشحين قادرين على صنع شبكات، قد تكون مرتبطة بالتنظيم أو ربما بعيدة عنه. و ما يهم أغلب الأحزاب في السنوات الأخيرة هو عدد المقاعد، و لذلك أصبحت تقبل مبدأ المنتخبين الرحل، الذين يلتحقون بها بعد أن يكونوا قد فازوا مع منظمات أخرى. ولا يمكن هنا إلا أن نسائل النمط الانتخابي الذي يسمح بتفضيل العلاقات الشخصية، وكذلك الموقف السلبي للسلطات أمام عمليات البيع و الشراء و توفير شروط تكوين الشبكات النفعية. و بالإضافة إلى كل هذا، لا يمكن إلا أن ندخل في اعتباراتنا الملابسات السياسية التي رافقت عملية العزوف، التي سجلت في الانتخابات الأخيرة، و التي دفعت بالعديد من أفراد الطبقات المثقفة و المتنورة إلى المقاطعة. من الواضح ان مثل هده الوضعيات خلقت واقعا حتى داخل الأحزاب نفسها، حيث أن التمثيلية المحلية و الوطنية أصبحت تنحو أكثر فأكثر نحو الاعتماد على نتائج الانتخابات، سواء في تحديد المندوبين للمؤتمرات، و بالتالي الفائزين بمناصب المسؤوليات. و في كل هذا أخذت العديد من الأحزاب تفقد مثقفيها، الذين لا يجدون لهم موقعا في العملية السياسية المرتبطة كلها تقريبا بالانتخابات. و لا ينبغي ان يفهم من هذه الملاحظات أن على الأحزاب الاعتماد فقط على المثقفين، فهذا غير صحيح، لان اللعبة السياسية في حاجة إلى المناضلين الحركيين كذلك، الذين لهم ارتباطات ميدانية. لكن التوجه الذي يلاحظ في السنوات الأخيرة، هو ان التوازن الذي كان قائما بين الفئات الحركية و المثقفة، أخذ ينحو تدريجيا لصالح الحركية الانتخابية و تجييش الأنصار، بأساليب تكوين الشبكات، التي لا تعتمد على التقاليد الحزبية النضالية، مثل الإقناع و الاتفاق على الموقف السياسي وتصارع الأفكار و الاقتراحات و التوجهات و البرامج. لابد لهذه الوضعية أن تنعكس سلبا على الحياة الحزبية و أيضا على الحياة السياسية الوطنية، و هذا أمر لا يمكن تجاهله، لأن تجارب البلدان الديمقراطية تثبت لنا أن التطور السياسي ارتبط بتصارع الأفكار و البرامج و النظريات، التي تعتمد على الثقافة و المعرفة و الفلسفة، و ليس فقط على العملية الانتخابية و التمثيل الجماهيري، خاصة اذا كانت ضمن لعبة غير عادلة و غير منصفة، تفتح الباب للتحايل أكثر من أي شيء آخر. --- مساهمة في سلسلة آراء لكتاب ومثقفين وباحثين سينشرها الملحق تباعا حول تيمة «وضع المثقف في مغرب اليوم ودوره».