نجح النظام المتبع، واستجابت السلطات الأمنية على الفور لمحاولة تفجير ميدان «تايمز سكوير» تقريبا بنفس درجة الإتقان التي كان يمكن لأي شخص آخر الاستجابة بها، مثبتةً مرة أخرى أن النظر للإرهاب في سياق عسكري بحت فقط أمر خاطئ، وأنه مسألة تتعلق بالشرطة أيضاً. والقبض على «فيصل شاه زاد»، بعد 53 ساعة فحسب، على تركه لسيارة دفع رباعي معبأة بالمتفجرات في ميدان «تايمز سكوير» الذي يضج بالحركة، وتتقاطع عنده مفترقات طرق مانهاتن الرئيسية، يصلح في حد ذاته موضوعا لفيلم سينمائي مثير. وكما ألمح مأمور شرطة نيويورك، «راي كيلي»، فإن صائد الإرهابيين الخيالي «جاك بوير» بطل فيلم «24» الذي انتجته شركة «فوكس» هو فقط الشخص الوحيد الذي كان من الممكن أن يفعل ذلك على نحو أفضل من النحو الذي فعلته به شرطة نيويورك. وعلى النقيض من»بوير» فإن ضباط شرطة نيويورك وعملاء «إف. بي. آي» الذين كشفوا لغز القضية في الحياة الحقيقية لم يضطروا في سياق ذلك لتعذيب أي أحد. والحادث برمته يثبت قيمة العمل الشُرطي بنوعيه، القديم والمستحدث، في مواجهة تهديد الإرهاب. فجنود شرطة الدورية في نيويورك كانوا على مقربة من الميدان، عندما لاحظ باعة جوالون السيارة المشبوهة التي كانت تصدر عنها أصوات فرقعات ودخان، وأبلغوهم عنها، فاتصلوا فوراً بوحدة المفرقعات المتطورة في المدينة، التي وصلت خلال وقت وجيز، وتمكنت من إبطال مفعول السيارة المفخخة بأسلوب غير متقن. وعن طريق لوحة تسجيل السيارة، تمكنت الشرطة من معرفة شخصية مالك السيارة الأخير، والذي تبين أنه كان قد باعها مؤخرا لشاب نقدا. وتمكنت الشرطة و»إف. بي. آي» من التعرف على شخصية «شاه زاد» من خلال تفريغ وتحليل محادثات هاتفية أجريت بواسطة هاتف خليوي من النوع الذي يتم التخلص منه عقب الاستعمال. وبعد ذلك حدث الخطأ الوحيد الذي وصم أداء السلطات، والذي لولاه لكان ذلك الأداء فائقا، وذلك عندما بدأت تفاصيل التحقيق تتسرب إلى شبكات الأنباء والمخبرين الصحفيين الذين سبقوا الشرطة و»إف. بي. آي» إلى الأماكن التي كان شاهزاد يتردد عليها في «كونيكتيكت»، وفقا لتقرير إذاعة «ناشيونال بابليك راديو». وبعد تحليل محتويات الهاتف المذكور، وضع رجال إف. بي. آي شاه زاد تحت المراقبة. لكنه، كما قيل، علم أن الشرطة تجد في أثر رجل من أصل باكستاني يعيش في نفس الحي، فعلم أنه المقصود وقرر الهرب مما أدى إلى تعقيد الأمور بالنسبة لرجال «إف. بي. آي» الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من المتهم لولا أن ضاع منهم أثره في سوبر ماركت بنفس الحي. عند ذاك، تم وضع اسم شاه زاد على قوائم منع السفر، وهو الإجراء الذي يجب اتباعه في مثل هذه الحالات، بيد أن المشكلة أن النسخة الأخيرة لتلك القائمة لم تصل لمسؤولي المطار، ولو كانت قد وصلت إليهم في الوقت المناسب لما كان الرجل قد تمكن من الصعود على متن الطائرة. لكن مرة أخرى يثبت النظام المطبق نجاحه، وذلك عندما أرسل مسؤولو المطار قائمة الركاب الأخيرة إلى مركز مكافحة الإرهاب لإلقاء نظرة نهائية عليها. وعندها فقط أدرك رجال «إف. بي. آي» أنهم قد ظفروا برجلهم! ومن ثم، اتجهوا إلى الطائرة بأقصى سرعة، ولحقوا بها بعد أن أغلقت أبوابها، لكن قبل أن يقودها الطيار بعيداً عن بوابة المطار نحو ممر الإقلاع. لقد كان الأمر برمته شبيها بالانقضاض على فريسة في آخر لحظة قبل أن تتمكن من الإفلات. لكن هذا هو نمط العمليات الذي يجب أن نتوقعه في إطار مواجهتنا للإرهاب. ففي هذه الحرب يحاول الإرهابيون فعل أشياء شريرة ثم يختفوا ويهربوا. والسبب الذي يدعو الحكومة لوضع إجراء إضافي، قد يراه البعض زائداً، هو التحسب لإمكانية تمكن الإرهابيين من الهرب من إجراء ما فيتم القبض عليهم بواسطة الإجراء الذي يليه، أو الذي يليه... وهكذا. لقد قبض على شاه زاد، ووجه إليه الاتهام وفقا للقوانين المدنية، لكن تم استجوابه قبل أن تقرأ عليه لائحة حقوقه بموجب استثناء صحيح يتعلق بالسلامة العامة، وعندما قرأت عليه تلك اللائحة، واصل الاعتراف. وقد حدث شيء مماثل مع «عمر فاروق عبد المطلب» ، الذي تكلم في البداية، ثم لجأ إلى الصمت لفترة، ثم بدأ يتكلم مرة أخرى. وفي الحالتين حصلت الشرطة على معلومات قيمة يمكن العمل بموجبها ضد المتهمين. ولعل هذا يكون كافياً لإسكات من يصرخون في كل مرة نتعرض فيها لمؤامرة إرهابية داخلية مطالبين بتشكيل «محكمة عسكرية». فأنا لا أعتقد أن المحققين العسكريين كانوا سينتزعون من المتهمين معلومات أكثر ولا أفضل من تلك التي انتزعها المحققون المدنيون، كما لا أعتقد أن المحكمة العسكرية سوف تصدر أحكاماً أقسى من المحاكم المدنية، حيث أثبتت التجربة التاريخية أن المحققين المدنيين كانوا يحصلون من المتهمين على الاعترافات التي يريدونها، ويصدرون عليهم أحكاماً قاسية لا تقل بحال عن تلك التي كان يمكن أن تصدرها محاكم عسكرية. والسؤال الآن: هل يمكن لأحداث الأسبوع الأخير أن تجعلنا نشعر بأننا أكثر أمنا؟ إنه لشيء يدق أجراس الإنذار، أن يُتهم مواطن أميركي بهذا الجرم الشنيع، كما أنه ليس هناك ضمان بأن تكون المؤامرة التالية غير متقنة على النحو الذي كانت عليه محاولتا شاهزاد وعبد المطلب. لكن الحقيقة الأكيدة هي أن المواطنين الواعين، ورجال الشرطة اليقظين، هم خط دفاعنا الأول الذي تثبت مثل هذه الأحداث تماسكه ومتانته. *محلل سياسي أميركي عن «واشنطن بوست»