تحت هذا العنوان، وفي أعقاب هزيمة 1967، كتب الشهيد «عمر بنجلون» مقالته الشهيرة في تشريح ونقد وضعية الاغتراب التي كانت عليها «أطرنا» تجاه القضية الفلسطينية. وكما حلل عمر وبيّن، فالموقف في القضية لم يكن إلا جانبا في وضع اغترابي ثقافي وأيديولوجي في كل قضايا التحرر القومي. ليس بوسعي، هنا، أن أتعرض لكل البواطن الأيديولوجية المظللة التي كشفت عنها المقالة والتي صاغت تلك الوضعية الاغترابية لدى جزء هام من نخبنا المغربية (والمغاربية)، وإنما سأكتفي بهذه الشهادة الناطقة بحد ذاتها، وكما وردت في النص الأصلي لصاحبها: «ينبغي أن ننطلق من حدث ليس له أهمية، ولكنه يوضح إلى أي مدى استطاعت الحيل والأكاذيب الاستعمارية (القديمة ب 50 سنة) أن تنطلي على المثقفين المغاربة. فقدماء «ثانوية أزرو» الذين اجتمعوا في مؤتمر عقد في مستهل الصيف لم يقبلوا أن يتخذوا موقفا من المشكل الفلسطيني إلى على أساس اعتباره مشكلا من مشاكل التحرر في العالم مثل أنغولا والموزمبيق.. إلخ. وليس هذا ليسجوا أن الأمر يتعلق بمشكل استعماري، ولكن على النقيض من ذلك للتأكيد على أنه مشكل «عربي» لا يهمهم مباشرة أكثر مما تهمهم قضية غينيا المدعوة بالبرتغالية. وهو مثل آخر يجسد الانتهازية في مرحلتها الأولية. ولكنه أيضا وبالأخص يبرز إلى أي حد استفادت الصهيونية في أن تكسب صفة الحياد وتحالف أطر بلداننا الموضوعي». وأنا واثق من أن «عمر» كان على علم في نفس هذا الزمن أيضا، بما وقع في المؤتمر الوطني الثاني عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. فالحدث السابق الذي رواه كان له ما يشبهه في هذا المؤتمر، حيث وقفت شريحة من الطلاب المؤتمرين ذوي انتماءات سياسية وأيديولوجية معينة تحاجج بما يقارب نفس المنطق في معارضة طلب إفراد بيان سياسي تحليلي مستقل لكل قضايانا العربية، خارج عن المعتاد في ملتمسات التضامن المبدئي مع باقي حركات التحرر الوطني العالمية، وباعتبار القضايا العربية مسائل قومية تهم مباشرة الشعب المغربي وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي سيشدد المؤتمر على أنهآ «قضية وطنية» بالأحرى. ولقد توصل المؤتمر في النهاية، وبعد استعصاء جدالي، ولأول مرة في تقاليد الحركة الطلابية، إلى الخروج بهذا البيان السياسي المستقل. وكيفما كانت الأخطاء السياسية التكتيكية الواردة في ذلك البيان، فلقد شكل نقطة تحول كبرى في الوعي القومي لدى الحركة الطلابية. هذه الحركة التي ستشهد بعد هذه اللحظة اندفاعات جماهيرية عارمة ومتواصلة لصالح القضية الفلسطينية. وبوجه عام، ما كان لذلك الوضع الاغترابي الذي كانت عليه «أطرنا» - بتعبير الشهيد عمر - أن يدوم أو يسود في خضم ما أظهرته شعوب الأمة العربية من إرادة جامحة في المقاومة وتحدي صدمة الهزيمة. وما كان له أن يسود بفعل انخراط كل قوى اليسار العربي في دعم الثورة الفسلطينية، ومن بينها اليسار المغربي الذي اكتسبت قواعده وأطره وجماهيره ثقافة تقدمية في شأنها القومي أكثر فاعلية وأكثر وضوحا وشمولية. وكان أن احتلت القضية الفلسطينية لديها موقعا محوريا في اهتماماتها النضالية اليومية الدائمة. لكن هذه الاندفاعة ذات الوعي الحاد بالاشتراك العروبي في المصير والمستقبل، صارت تتوارى وتتقلص أكثر فأكثر لدى نخبتنا من جديد، وكأننا أضحينا مرة أخرى في وضعية اغترابية شبيهة بما كنا عليه في الماضي، بل وبأشد وطأة منه. ذلك لأن الاغتراب الحالي صارت له أسنان أيديولوجية أشد صلابة، ولأسباب مختلفة، منها: إندماجه مع المفاعيل التفكيكية للعولمة داخل كل قطر وبين كل الأقطار جميعا. واندغامه مع ما تضخه لدينا وبكثافة الأيديولوجيات المهيمنة في الغرب ذات الطلاء التحديثي الفاقد بالضرورة لبعدنا الحضاري التاريخي. ناهيك عن تأثيرات حالات الإحباط والإعاقة المتراكمة في وضعنا العربي عامة واللافت هنا ، أنه في الوقت الذي تتباهى فيه هذه الايديولوجية الاغترابية بتخلصها من أوهام العروبة ومشمولاتها، باعتبارها لم تكن سوى طوباوية لا يسندها تاريخ ولا مستقبل، وباعتبارها تتعارض بالتمام والكمال مع بعض خصوصياتنا الوطنية، وفي الوقت الذي يوظف فيه هذه الخصوصيات لاضد الهيمنة الاستعمارية بكل اشكالها الموروثة، او المتجددة، بل ضد العروبة والعروبة وحسب، وفي الوقت الذي يطمع فيه بعضها في الاندماج بالاتحاد الاوروبي ويغفل ويتنكر للمجال العربي الثقافي والحضاري والاقتصادي والجغرافي بكل حمولاته الوحدوية الممكنة، وهو المجال التاريخي الفسيح والمفتوح أمامنا في بناء استقلاليتنا وتقدمنا ونهضتنا على كل المستويات، في هذا الوقت بالذات، ترى المصالح الغربية من وجهة اقتصادية بحثة، وبالقدر الذي لا يتعارض مع مصالحها السياسية والجيوبوليتيكية، ضرورة احياء الاتحاد المغاربي كسوق موسعة محتملة ونافعة لها، أليست هذه إذن مفارقة دالة على اغتراب مضاعف! ثم هل من دليل آخر على الوضع الاغترابي المستجد لدى النخبة في الدولة والمجتمع أكثر مما أبانته في تعاليها ولا مبالاتها واستخفافها بالاحداث الخطيرة التي تجري على الارض الفلسطينية اليوم، حتى والشعب الفلسطيني يخوض معركة الوجود في شوطها الاخير والفاصل، فإما سيكون له الانتصار او ستلقى قضيته ومعها المشروع العربي بمجمله الهزيمة بالضربة القاضية، وهل نحتاج في هذا، لسرد الوقائع المعروفة على كل حال، والتي لا تترك هامشا للشك في ان اسرائيل ماضية وبتصميم معلن ومستفز في استكمال مشروعها الصهيوني في الاحتلال والاستيطان والتهجير، لا في القدس وحدها، بل في كل فلسطين التاريخية ل 48 و 67.. وهل نحن بحاجة لكي نؤكد انه لم يبق من الارض (ولا من السيادة) ما يمكن ان يتفاوض عليه في رهان السلام والتسوية المزعوم والواهم؟! هكذا إذن، نحن في الشوط الاخير في معركة الوجود الفلسطيني، فإما نجاح له وللمشروع القومي معه، واما نجاح للمشروع الصهيوني المفتوح على حروب وفوضى دائمة.. من هنا تتضح خطورة المرحلة وجسامة المسؤولية التاريخية المطروحة على نخبتنا في الدولة والمجتمع معا. ولأن أبواب الامل و النجاح ليست كلها مغلقة، فمن الضروري التشديد على الامرين التاليين في سيرورة الصراع وفي نتيجته المأمولة: اولا: بالرغم من كل عوامل الاغتراب والتفرقة ومظاهر الاعاقة والاحباط، فإن الموروث الثقافي العربي - الاسلامي، القابل للتجديد والتطوير دوما، هو الأقوى والاكثر تجذرا في وجدان الشعوب العربية، الحافظ لوحدتها، والمحرك لدفاعاتها ومقاوماتها. ومازال هو الأساس المتين للرقي بطموحاتها الحضارية. ولنا في الحشود الجماهيرية كلما نادى المنادي وكلما سنحت لها الفرصة للتعبير عن هذا الوجدان العميق.. كما لنا في فشل التطبيع مع اسرائيل في الانظمة المطبعة والأخرى المحتالة.. خير دليل على ذلك. ثانيا: وبالرغم مما عليه النظام العربي الرسمي من تنافر واستجداء مهين ومن ضياع استراتيجي، فإن اتجاه التغيرات الجارية على موازين القوى دوليا وفي ساحات الصراع المباشر مع المشروع الاسرائيلي ينحو لصالح القضية العربية - الفلسطينية، فعلى الواجهة الدولية، وبدون إطالة، ثمة تراجع مضطرد لنظام القطب الوحيد وللهيمنة الامريكية فيه وعلى أكثر من صعيد. وفي ساحات الصراع المباشر، ماعادت اسرائيل قادرة على فرض ارادتها بحروبها السريعة، كيفما شاءت وقتما شاءت، خاصة بعدما غدت أرضها مكشوفة هي الأخرى في اية حرب قادمة، فما بالك ان أتت هذه الحرب على جبهات مختلفة وطويلة نسبيا. وقبل هذا وذاك، هناك الشعب الفلسطيني الصامد و المقاوم مهما قيل في خلافاته الفصائلية الراهنة. وخلاصة القول، لنستأنف النهج القومي التقدمي النقدي لشهيدنا عمر بنجلون. فكل ايديولوجيات الاغتراب عابرة ولا آفاق لها. فقط «لنتخلص من الاحباط وايديولوجية الاحباط، كما نبهنا لذلك مفكرنا الكبير عابد الجابري القائل «النظرة التاريخية واعتبار النسبية ضروريان للتخلص من حالة «الاحباط» و إيديولوجية «الاحباط» إيديولوجية التنظير للهزيمة والسقوط..»