حدث تتشكل القدرة التي هي شرط إمكان تدبير علاقة العيش مع عناصر الطبيعة دون الخضوع لها. فالفطام هو الولادة الحقة للجسد كرغبة، بعد الولادة الأولى للبدن باعتبارها منحا وعطاء للوجود، بمعنى أن الفطام هو من يصير البدن ومن خلاله الجسم إلى جسد، فالبدن نتاج الوجود، ومن ثمة فهو خضوع للطبيعة إنه على الرغم من انبثاقه ككائن منفصل فهو ينتمي لنظام الطبيعة باعتبار خضوع حاجياته البيولوجية للعناصر التي تغذيه وتحقق شرط نموه داخل الطبيعة. ولكن الكائن الإنساني هو وحده من يستطيع أن يجعل من حدث الفطام، ولادة للجسد على نحو الغيرية، ففي هذا الحدث يتخلص البدن من التبعية ليصير جسدا آخر، بإخضاعه الشرط البيولوجي للطبيعة للشرط الإنساني، وهذا التحول يتشكل على إيقاع الرغبة، وليست مشكلة الرغبة منحصرة في تلبية حاجيات البدن التي تستطيع عناصر الطبيعة تلبيتها تلقائيا، وإنما في التأسيس لعالم تغدو فيه الرغبة شرط إمكان تحقق فن العيش، التي تظهر على أساسه تجربة الجسد داخل الوجود مشروعا تأسيسيا لنظام الجسد، أي للعلاقة البيجسدانية في العالم. إن ما نسميه «تجربة الجسد» هو حالة من تورط الكائن المنفصل l?être séparé في صراع الوجود، صراع تجعل منه الرغبة مجالا لتوليد الفوارق، وإمكانية خاصة على اقتدار الجسد التي ظلت الميتافيزيقا التقليدية تتجاهلها بل إنها تمعن في إقصائها، وهذا ما انتبه إليه سبينوزا في كتابه «الايطيقا»، وهو ما عبر عنه قائلا: «إن أحدا لم يبين حتى الآن حدود قوى الجسد ، أي أن التجربة لن تكشف لأحد بعد ما يقدر الجسد على القيام به وفق قوانين الطبيعة وحدها، بقدر ما ينظر إلى الطبيعة على أنها ممتدة، فلم يكتسب احد حتى الآن من المعرفة الدقيقة بتركيب الجسد ما يمكنه من تفسير جميع وظائفه، كما أنني لست بحاجة إلى الإشارة هنا إلى ما يلاحظ في الحيوانات الدنيا من أفعال عديدة تفوق حكمة البشر بكثير، وإلى أن المصابين بمرض السير ليلا يقومون أثناء نومهم بأفعال كثيرة لا يقدرون عليها وهم في حالة اليقظة، وهذه الأمثلة تكفي لإثبات أن الجسد قادر بطبيعته الخاصة وحدها على القيام بأفعال كثيرة تحير العقل، ومع ذلك فلا أحد يستطيع معرفة الكيفية، ولا الوسائل التي من خلالها يقوم الذهن بتحريك الجسد، ولا عدد درجات الحركة التي يستطيع الذهن أن يبعثها فيه، أو مدى السرعة التي يمكنه تحريكه بها. وهكذا فإن الناس عندما يقولون إن أصل هذا الفعل الجسدي هو الذهن الذي يسيطر على الجسد، فإنما يستعملون ألفاظا لا معنى لها، أو يعترفون بألفاظ ملتوية بأنهم يجهلون سبب الفعل الذي يتحدثون عنه دون أن تعتريهم الدهشة لذلك.»1 ولعله من الأنسب القول بأن التفكير في تجربة الجسد ظل إلى حدود اللحظة السبينوزية مغيبا، ويمكن القول أيضا أن لحظة سبينوزا أسست لما يمكن أن نسميه ايطيقا جسدية ضمن مشروع حداثة فلسفية تستعيد وضع الإنسان في إطار إشكال جديد يروم الإجابة عن سؤال الجسد الجوهري: ما الذي يقدر عليه الجسد؟ وهو السؤال نفسه الذي يستعيده من بعد ميرلوبونتي في تناوله لكوجيطو الجسد «الأنا أقدر». 1 -Spinosa :Ethique : scolie de la proposition II traduction Charles Appuhn. Librairie Garnier frères P.251.