أيام كان المغاربة يحبون المغاربة، أيام كان المغاربة يحملون طموحات لامحدودة للمغاربة، أيام كان المغاربة لا يحتقرون المغاربة... للشاب المتطلع لأن يصبح صحفيا، عندما استقبله من أجل التوظيف، خاطبه قائلا: «في يوم من الأيام ستأخذ المكان الذي أجلس فيه الآن».... إنه السيد المهدي بنونة مخاطبا الشاب عبد الجليل فنجيرو الذي سيخلفه فعلا بعد حوالي عشرين سنة، على رأس الصرح الاعلامي، وكالة المغرب العربي للأنباء (لاماب)، صرح كان من الصعب تصوره في تلك الفترة، ليس فقط بالنسبة لبلد صغير كالمغرب المستقل للتو، ولكن بالنسبة للعشرات والعشرات من شعوب الأرض التي يتقاسمها بإحكام أربعة من عمالقة الإعلام في العالم: رويترز، تاس، وكالة الأنباء الفرنسية واشوسيتيد بريس. كانت البنية الجسدية للرجل، هدوؤه، وحركاته النادرة التي تصاحب كلماته المنغومة، خادعة حول كاريزما قائد الرجال، وإصرار باني مشاريع تاريخية ومسارات رائعة. بداخل الرجل كانت تغلي «ألشيميا» نادرة في ذلك الزمن... هدوء بريطاني، مقاومة ريفية، سخاء عربي، خصال اختمرت طويلا داخل الشاب المهدي، الباحث عن طريقه ومساره في الشرق الاوسط، في أوربا، في المغرب، في مصر، في فلسطين، في افريقيا، في نيويورك، في مكاتب الأممالمتحدة الفتية أو في أروقة الجامعة العربية بالقاهرة، أو في قاعة تحرير «الأهرام» هرم الصحافة العربية. كان الصحفي الشاب، والخطيب اللامع يدافع بواسطة البلاغات والمقالات والاتصالات عن انعتاق بلده، المغرب، في أروقة ومكاتب الأممالمتحدة والجامعة العربية، التي كانت ماتزال تعاني من قرون من الاحتلال العنيف والسبات السياسي والثقافي والحضاري. بداخله، وطيلة فصول ربيعه، كما خلال خريف حياته، كانت تزهر ثقافة البورجوازية الصغرى التطوانية المتعلمة، المتشبعة باللغة العربية الأصيلة والناشئة بفضل أقلام نهضة العشرينيات من القرن الماضي، ومقالات وافتتاحيات جيل متميز من صناع الصحافة والمحللين السياسيين من طينة جمال الدين الأفغاني (الذي أصدر منذ سنة 1900 نشرة «النجمة» بباريس)، وبالأخص شكيب أرسلان الذي أقام في تطوان مدينة الثمانين مطبعة سنة 1956. النظرة الزرقاء / الخضراء للسي المهدي، كانت توحي بالهدوء، بالوقار، بجمال آت من بعيد، نظرة تفرض الاحترام. توحي بلطافة لا مثيل لها. يتخذ قرارات كانت تزعج الذين كانوا يشكون بأن هذه الارض هي أرض رجال فخورين نزهاء، يعشقون إرثهم كما يعشقون مستقبلهم، شعراء وبُناة... حاول وآمن بالوحدة، التي لم تتحقق منذ ذلك الزمن، بين المغاربة والجزائريين والتونسيين، في مسرح عمليات من أكثر المسارح حساسية في ذلك الوقت ومن أكثرها تلوثا بالشوفينية الضيقة: الخبر. لقد أعطت وكالة المغرب العربي للأنباء للمغرب، المملكة المغمورة آنذاك في نظام إعلامي عالمي إسما خاصا. تجرأ السي المهدي يوم 10 يوليوز 1971 على بث قصاصاته عن انقلاب الصخيرات... أيام كانت الاستقلالية تكلل هاماتنا!.. أي نبل لمهنة الإخبار البسيطة، محراب الضمائر النبيلة المتعففة، الصارمة والثابتة في نفس الآن في مهمة «نقل الخبر» بأمانة: الحدث. أي أسف على عدم التعلم على يده في «لاماب»!... ولكن أية متعة فكرية يكسبها الانسان حول التفاهة والانحرافات السائدة، عندما تتاح لك فرصة تبادل الحديث مع هذا الصرح في مهنتي، بمناسبة الندوات والنقاشات التي كان يهيمن عليها بنظرته الثاقبة بهدوء، وبكلامه الذي ينطقه بنفس وثيرة من يرقن نصا، كما لو أنه كان يقرأه على شاشة أمامه، حريص على نطق عربيته بصفاء، مؤكدا علامات الوقف الضرورية لكلامه بتوقفات سيكون أي معلق إذاعي متمرس سعيدا بتقليدها. للرجال الكبار دائما في حياتهم فترات فراغ لابد من اجتيازها، والسي المهدي عاش فترة فراغ طويلة وظالمة، لقد أخذت منه جوهرته، بناؤه الأساسي: الوكالة. لكن الحسرة لم تنل من هذا الرجل الكبير الذي كان يكرر أمام الأوفياء وغير الأوفياء، أنه «يجب دائما احترام الدولة، والمصالح المشروعة للدولة». هذا الصحفي الذي لم يكن يشك، فبالأحرى أن يدعي، بأنه كان يقوم بدور رجل دولة في المغرب المستقل الناشئ، لا يمكن أن يسقط في التباكي السائد اليوم بين العديد من المدعين والمفسدين لهذه المهنة النبيلة، الصحافة، الذين تجذبهم السلطة، السلط، الدولة، مثل حشرات الليل. السي المهدي كان من طينة جيل الكثيرين من «المهديين» الذين علموا المغرب دروسه الأولى في الكرامة والحداثة: المهدي بنونة، المهدي بن بركة، المهدي المنجرة.... بمختلف أوجههم ومساراتهم ... مغاربة لم يكونوا يحتقرون المغاربة ولا يحتقرون أنفسهم. والمرحلة الاخيرة للانحطاط والتفسخ هي عندما يتجند هؤلاء بطريقة انتحارية، لتبديد الطموحات الاولى التي تحكمت في معركتهم من أجل التحرر... طموحات كان يعتبرها المستعمر السابق غير معقولة أو غير مقبولة لشعب كانوا يعتقدون أنه يجب أن «يتعلم التحضر». والمهدي بنونة من بين «مهديي» هذا البلد، كان ينحث على خط وكالته، طموح جيله في إدخال المغرب الى كونية زمانه. ندعو الله أن يبقى خط إرثه حيا، يتلألأ في الذاكرة، ذاكرة صحافتنا الوطنية كما في مقرراتنا المدرسية. فما كان لكتب التاريخ والمقررات المدرسية أن تخطئ مثل هذه الإيقونة... في الولاياتالمتحدة أو في انجلترا. شكرا سي المهدي. (*) صحفي سابق في لاماب (1984/1974)