كان الاستيطان ولا يزال الجبهة الرئيسية للصراع الدائر منذ منتصف القرن الماضي في فلسطين، وذلك لأن إسرائيل ليست دولة عادية تتخاصم مع دول أخرى، بل لأنها لم تكن في أي وقت دولة، ولا تزال غير قادرة على التفكير بنفسها والتصرف كدولة، بما يعنيه ذلك من بنية قانونية واعية ومستبطنة تحكم علاقاتها بالداخل والخارج، وتساعدها على النظر إلى هذا الخارج بوصفه دولا وشعوبا لها الحق في الحماية والسيادة والحياة، لا حقل صيد خاص مفتوح لكل ما في صدرها من مطامع وشهوات. ولدت إسرائيل وعاشت ولا تزال، كمشروع استيطان، بما يعنيه ذلك من غزو عسكري لإحلال سكان جدد محل سكان أصليين، وبالتالي انتزاع أراضيهم وإخراجهم منها ووضع اليد عليها. وهذا ما يعكسه تاريخ إسرائيل منذ بناء اول مستوطنة يهودية في فلسطين قبل أكثر من قرن. فليست إسرائيل سوى هذه السلسلة الطويلة من عمليات الغزو والضم والإلحاق لرقع متزايدة من الأرض العربية، مع تدمير حياة السكان وتهجير ما يمكن تهجيره منهم، وفرض الحصار العنصري، السياسي والاقتصادي، على بقيتهم كما هو حالها مع غزة حالياً، لإجبارهم على الاستسلام والقبول بالأمر الواقع. ويعني المشروع الاستيطاني أمرين أساسيين؛ أولهما الحرب الدائمة، وإلا توقف وانهار، وأصبح على مجتمع المستوطنين أن يعيد النظر في أسلوب حياته وتفكيره، لاسيما التعامل مع المحيط الذي كان إنكار حقوقه في أصل وجود المشروع نفسه. وثانيهما النزوع العنصري المتزايد، أي الصفاء أو النقاء الديني والعرقي، وطرد العناصر المختلفة التي تمثل نشازا يهدد تماسك المجتمع الاستيطاني وصلابته. ويزداد هذا النزوع بالتوازي مع تقدم الاستيطان ونجاحه في تحقيق أهدافه وتوسيع دائرته، بمقدار ما يضاعف هذا التقدم من حجم المشاكل والتحديات التي يثيرها لدى المجتمعات التي يأتي الاستيطان على حسابها، وتعاظم المقاومات التي تفرزها أيضا. وهذا ما يفسر المفارقة التي يعيشها أي مشروع استيطاني، أعني تفاقم شعور مجتمع المستوطنين بالخطر والتهديد والهشاشة في الوقت الذي لا يكف فيه عن تأكيد تفوقه الكاسح في ميدان القوة المادية والمقدرة على التدمير وزرع الخراب في المجتمع الضحية المحيط. ومن هنا ليس أمام أي مشروع استيطاني خيار آخر، ولا سياسة ممكنة، ترد على حاجات بقائه واستمراره سوى خيار الهرب إلى الأمام. فتوسيع دائرة الاستيطان يستدعي المقاومة أكثر فأكثر من قبل المجتمعات المستهدفة، ويجر إلى مزيد من الحرب والاعتماد عليها للدفاع عن البؤرة الاستيطانية وتعزيز استقرارها وأمنها. والعكس أيضا صحيح، فتنامي القوة وتزايد الشعور بالتفوق العسكري، يعزز منطق الاستيطان، موحياً بأن المزيد من الاستيطان يعني تحقيق استقرار أكبر وديمومة أكثر للبؤرة الاستيطانية. وتشكل القارة الأميركية، وأميركا الشمالية بشكل خاص، مثالا واضحا لهذه الآلية التي قادت إلى القضاء شبه الكامل على الشعوب الهندوأميركية وإحلال شعوب أخرى وثقافات جديدة محلها. فلم تتحول البؤر الاستيطانية إلى دول قانونية إلا بعد أن قضت تماما على المجتمعات المحلية وأخضعت ما تبقى من مقاومتها، أي عندما تحققت لها السيطرة على قارة كاملة أو ما يشبه ذلك. لكن لم يكن الحال كذلك في جنوب إفريقيا حيث اضطر مجتمع المستوطنين البيض، وبعد نحو ستة قرون من السيطرة المطلقة، إلى الاستسلام والمفاوضة على إعادة تحديد دور المستوطنين ومكانتهم في مجتمع مختلط. وكان هذا نموذجا خاصا وإن لم يكن فريدا للخروج من منطق الحرب الاستيطانية اختلف كثيرا عن النموذج الأميركي. لكن في الجزائر التي كانت معدة أيضا لتكون مستوطنة بيضاء، انتهت العملية بتفكيك المشروع الاستيطاني والانكفاء بعناصره ورجاله إلى البلد الأصلي فرنسا. وفي اعتقادي أن الصراع القائم اليوم في المشرق العربي لا يخرج عن هذا الإطار، أي تحديد مستقبل مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين ومحيطها العربي القريب. بيد أنه في ظل المعطيات الإقليمية والعربية القائمة، لا يمكن التفكير في حل على الطريقة الجزائرية، ولكن أيضاً يستحيل تطبيق حل على الطريقة الأميركية يمكّن المجتمع الاستيطاني من القضاء على المجتمع الفلسطيني وامتداداته. فلا المعادلة السكانية ولا الثقافية والحضارية، تعمل على المدى الطويل لصالح إسرائيل. وبالمثل، يرفض المستوطنون الإسرائيليون بشكل واضح وقاطع الحل الجنوب أفريقي لمأزق المشروع الاستيطاني، ولا يكفون عن رفض الاختلاط والتنوع الإثني، وعن التمسك بتأكيد هوية يهودية يزيد من التشبث بها الإحياء المستمر لذاكرة الإبادة الجماعية التي تعرض لها يهود ألمانيا النازية. من هنا لا يزال الرأي العام الإسرائيلي، واليهودي عموماً، يرفض التفكير في مستقبل المشروع الاستيطاني، وأحيانا يرفض النظر إلى ما يواجهه من تحديات، ويعتقد أن توسيع الاستيطان وبناء جدران عازلة تحيد الفلسطينيين وتمنعهم من المقاومة، يمكن أن يضمن له النجاح في ما أخفق فيه نظام الآبارتايد بجنوب إفريقيا. وتشجع على هذا الاختيار المطابقة بين منطق الاستيطان والوفاء للعقيدة الدينية، وهذا ما يفسر تنامي وزن المتدينين وتماهي قضيتهم مع سياسة الاستيطان. وتغذي الثقة بنجاحه التعبئة القوية للجماعات اليهودية العالمية وراء إسرائيل، والتأييد الكبير الذي تحظى به هذه الأخيرة من قبل الغرب. كما يعزز هذا الخيار تفكك الجبهة العربية وتضارب أطرافها، وانقسام الفلسطينيين أنفسهم وتضارب خياراتهم. لن تتخلى إسرائيل، أي أغلبيتها الانتخابية، عن هذا الخيار إلا إذا أدركت بشكل واضح أن نظام التمييز العنصري طريق مسدود وليس حلا، وأن السير فيه لا يضمن أي أمن ولا سلام، بل يقود إلى تخليد الحرب بما تحمله من مآسٍ وآلام ومخاطر، لا تهدد إسرائيل والعرب خاصة، وإنما جميع الأطراف، بما فيها أطراف بعيدة عن المنطقة وفي محيطها. لقد قطع الطريق على الحل التاريخي وتحطم منطقه على طاولة المواقف والممارسات: الغرب الذي تحتمي إسرائيل خلف تأييده، والجماعات اليهودية التي تراهن تل أبيب على نفوذها الواسع في أنحاء العالم، والعرب الذين يلهب ضعفهم وشلل إرادتهم حماس المستوطنين اليهود ويقوي متطرفيهم، والفلسطينيون الذين يغرون (بانقساماتهم وتفرق كلمتهم وتخبط قياداتهم) أعداءهم بهم، ويشجعون أصدقاءهم وأشقاءهم على التساهل في حقوقهم إن لم يكن التضحية بها. هذا جوهر المواجهة القائمة اليوم في فلسطين وعليها.