ثمة شعور سائد بأن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة بالغة الاضطراب وفقدان البوصلة. الانقسام الداخلي بين الضفة والقطاع، أو بين سلطة رام الله وحكومة غزة، امتد لزمن أطول مما كان يتوقع له. مسار التفاوض حول ما بات يعرف بالحل النهائي متوقف كلية؛ بل إن أحداً لا يعرف على وجه اليقين ما هو الحل النهائي الذي ينبغي التفاوض عليه من وجهة نظر الأميركيين والإسرائيليين. الحكومة الإسرائيلية الحالية ليست في مزاج تفاوضي، وقد صرّح رئيسها في أكثر من مناسبة بأن قيام دول فلسطينية ليس على جدول أعماله التفاوضية. ولكن هناك ما هو أسوأ؛ فبالنظر إلى حجم القمع الذي تمارسه سلطة رام الله ضد كل فصائل المقاومة وعناصرها المسلحة، صار واضحاً أن السلطة قد أوفت بالتزاماتها تجاه خارطة الطريق. الحكومة الإسرائيلية، من ناحيتها، لم توف بالالتزامات التي تفرضها خارطة الطريق، سيَّما تلك المتعلقة بإيقاف الاستيطان. هذه، كما هو معروف، باتت عقدة العقد في استئناف التفاوض، لسبب يتعلق بحقائق الوضع على الأرض. في أساسه، وقبل أن تبدأ سردياته المختلفة في التبلور، الصراع على فلسطين هو صراع على الأرض. ولأن مفاوضي أوسلو من الجانب الفلسطيني، وفي مقدمتهم عُضوا لجنة فتح المركزية آنذاك، محمود عباس وأحمد قريع، لم يصرّا على إدراج مسألة الاستيطان في نص الاتفاق، فقد استمر التوسع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية منذ منتصف التسعينيات، بل وتصاعدت وتيرته خلال سنوات ما بعد أوسلو تصاعداً غير مسبوق. يقوم التصور الفلسطيني للتسوية النهائية على حل الدولتين؛ ولكن الاستيطان في الضفة الغربية وصل مستوى لم يعد يسمح بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة؛ وهذا ربما ما دفع الرئيس عباس إلى التصميم، هذه المرة، على إيقاف الاستيطان قبل بدء التفاوض. وقد وجد الموقف الفلسطيني تأييداً من إدارة أوباما، التي أبدت في شهورها الأولى التزاماً لا يخفى بدفع عجلة التفاوض والتسوية. أوفد أوباما جورج ميتشيل، الذي يعتبر من خبراء الملف الفلسطيني، مبعوثاً خاصاً للعمل على إطلاق المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وسرعان ما أظهر ميتشيل عزماً على الاستجابة للمطالب الفلسطينية الأولية حول إيقاف الاستيطان. بيد أنه لا الإدارة الأميركية ولا النظام العربي في موقع يسمح بممارسة ضغطٍ كافٍ على الحكومة الإسرائيلية، أو أنهما افتقدا منذ زمن الصلابة الكافية لممارسة هذا الضغط. بعد أن عقد الرئيس عباس آمالاً كبرى على إدارة أوباما، جاءت لحظة خيبة الآمل والشعور المتعاظم باليأس والقنوط. راهن عباس منذ مرحلة مبكرة في تاريخه الوطني على المسار التفاوضي، وعلى إمكانية التوصل إلى تسوية للصراع على فلسطين، وإن كانت تسوية متواضعة ولا تلبي الطموحات الوطنية الفلسطينية. اليوم، يصل إلى نهاية الطريق. لسنوات طويلة مرت منذ أن فشلت مباحثات كامب ديفيد، كان الملك يقف عارياً أمام شعبه من دون أن يدرك حقيقة عريه. اليوم يقف الملك عارياً وهو على يقين من عريه. وهذا، ربما، ما أدى إلى إعلان «عدم الرغبة» في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة لسلطة الحكم الذاتي. إن من الصعب، بالطبع، أخذ إعلان الرئيس مأخذ الجد؛ فلا تاريخ الرجل، ولا اللغة التي استخدمها، يوحيان بأنه عازم فعلاً على التخلي عن منصبه الرئاسي. الأرجح، أن عباس اعتقد أن مثل هذا الإعلان سيشكل ضغطاً على الأميركيين والإسرائيليين لتقديم بعض التنازلات الإضافية التي قد تساعده في تحسين وضعه الشعبي. بيد أن ذلك لا يعني أن الأمور لن تتداعى نحو دفع الرئيس الفلسطيني إلى التنحي فعلاً؛ بمعنى أن تنقلب المناورة إلى موقف جاد. ماذا لو أن واشنطن أبلغت عباس بأنها قامت بكل ما تستطيع أن تقوم به؛ وأن نتنياهو رفض تقديم أي تنازلات جديدة في مجال الاستيطان، وظل على إصراره بأن المفاوضات لا تتعلق بقيام دولة فلسطينية، بل برفع مستوى الحكم الذاتي وحسب؟ رد الفعل المنطقي، والأشرف بالتأكيد، هو تنحي عباس، ليس عن الرئاسة وحسب، بل وعن كل مناصبه القيادية الأخرى، والذهاب إلى التقاعد. أما إن قرر الرئيس العودة عن إعلانه واختار التفاوض في ظل الموقف الأميركي- الإسرائيلي الحالي، فسيعود رئيساً بلا رصيد. والمسألة هنا لا تتعلق بما يحمله قرار العودة من تذكير بتقاليد السياسة العربية المعهودة خلال نصف القرن الأخير، ولكن بما يحمله من دلالات على المسار التفاوضي وعلى مصير القضية الوطنية. عباس لا يستطيع أن يعود رئيساً مقاوماً للاحتلال، فهو لم يُصنع من مادة المقاومين؛ ولا يستطيع أن يعود رئيساً بلا مفاوضات، فموقعه ودوره في الحياة السياسية الفلسطينية ارتبطا نهائياً، وفي صورة قطعية، بالمفاوضات وعملية السلام. إن عاد إلى الرئاسة، بالتالي، فسيعود إلى القبول بالتصور الأميركي- الإسرائيلي لاستئناف التفاوض، ليس فقط فيما يتعلق باستمرار التوسع الاستيطاني، ولكن أيضاً القبول بأن المفاوضات لا تدور حول دولة فلسطينية، بل مجرد حكم ذاتي موسع قليلاً. هذا ما يجعل الجدل الذي أثير في الساحة الفلسطينية حول إعلان «عدم الرغبة» غير ذي معنى. دار الجدل الفلسطيني حول ما إن كان عباس جاداً أو مناوراً؛ حول ما إن كان هناك من مرشح بديل، وما إن كان الأميركيون لم يعد لديهم من مانع من ذهاب الشخصية الفلسطينية الأكثر التزاماً بمسار التسوية السلمية، وإيصال شخصية مثل سلام فياض لرئاسة سلطة الحكم الذاتي؛ جدل آخر شهدته أوساط حركة فتح حول ما إن كان يمكن القبول برئيس من خارج صفوفها؛ وجدل حول ما إن كان إعلان عباس يعني في النهاية تأجيلاً غير محدد للانتخابات الرئاسية والتشريعية التي كان عباس قد أعلن عزمه على عقدها في يناير المقبل، سيَّما أن مشروع المصالحة الوطنية عاد إلى التعثر. الحقيقة أن هذا الجدل وما يتعلق به لم يعد ذا صلة بالقضية الوطنية. تماماً كما أن ورقة المصالحة المصرية التي اشتعل حولها الخلاف من جديد خلال الأسابيع القليلة الماضية هي ورقة خارج السياق تماماً. ففي حين أن المصالحة الوطنية ضرورة لا يمكن أن ينكرها أحد، فإن الورقة ليست أكثر من إطارٍ تقني بحت لكيف تعقد الانتخابات التشريعية المقبلة، لكيف تقاد منظمة التحرير خلال الفترة الانتقالية السابقة على خطوط إعادة البناء والإصلاح، وكيف يمكن أن تعود السلطة وأجهزتها إلى قطاع غزة، وقضايا أخرى مشابهة. ما يتطلبه الوضع الفلسطيني، وما تتطلبه القضية الوطنية، ليس الغرق في التقنيات ومصيدة التفاصيل، لا تلك المتعلقة بمنصب رئاسة السلطة ولا تلك المتعلقة بالمصالحة. ما يتطلبه الوضع الفلسطيني هو تقدير جديد للموقف، يدرك حقائق الواقع على الأرض وحقائق موازين القوة؛ نمط جديد للتفكير السياسي، يتحرر من وطأة عقل السبعينيات، الذي لا يزال يثقل استراتيجية العمل الوطني. ما يتطلبه الوضع الفلسطيني هو إعادة نظر جذرية في وهم حل الدولتين، الذي أوصل القضية الوطنية لا إلى دولتين ولا إلى حتى إلى حكم ذاتي على الأرض التي احتلت منذ 1967، بعد أن ابتلعت الأرض متراً متراً، ولا تزال، والقيادات الفلسطينية الوطنية تنظر.