قد تلتقي مع كاتب أو كاتبة في طريق ما، دون أن يكون لك هدف للقائه، أو حتى أنك لا تعرفه، قد يكون هذا اللقاء صادما لأن الندم يوخز مساماتك، لأنك لم تلتقي بكتابه في مرحلة سابقة... لكن لهذا اللقاء حميميته الخاصة تجعلك تبحث عن الكاتب في الطرق السيارة التي يقدمها الأنترنيت وإن كانت لا تسمن ولا تغني من جوع، كأن رغبتك هي الإحاطة به بقراءة كتاباته وليس بالصور المختصرة التي تظهر على شاشة الأنترنيت. أعني بهذا اللقاء الأخير قراءة لفصل من سيرة ذاتية لكاترين مييه millet من خلال موقع kika. سيرة جنسية ترجمها سعد نور الأسعد، والمنشورة مؤخرا بمؤسسة جومانة حداد للنشر والترجمة. لأول مرة أقرأ سيرة جنسية بكامل عنفها الأدبي خاصة وأن كاتبتها امرأة. ولأنها كذلك فالمحظورات تتسع بينها وبين ترسيم تجربتها الجنسية. إن المسألة هنا لا تعدو كتابة بورنوغرافية تفتح العري الإستهلاكي في تخمته الرأسمالية. صحيح أننا تعودنا قراءة هذا النمط من الكتابة في بعده الإيروتيكي عند فقهائنا العرب أمثال الشيخ النفزاوي والتيفاشي وغيرهم، وصحيح كذلك أننا قرأنا لبعض الكتاب الهامشيين كما يحلو للبعض أن يسمهيم مثل محمد شكري في « الخبز الخافي» ...إن هذه الكتابات تعري جسد الأنثى وتخفي جسد الذكر، وبينهما تحضرني كتابات كنت أعتبرها إلى حد قريب جريئة- مثل كتابات علوية صبح وسلوى النعيمي وكتابات فاطمة المرنيسي وأشعار يونس منصور وبعض الكتابات القادمة من شبه الجزيرة العربية... لكن هذه الكتابات تظل مترنحة في إستعاراتها المتخفية بين الباطن والظاهر، بين المخفي والجلي، ربما لأن السلطات المتعددة تفرض عليهن (أو على الكتابة العربية برمتها) التمركز في هذا الوسط، في المنزلة بين المنزلتين، فلا هي تكتب التجربة بعريها الصادم ولا هي تطفىء الضوء على السفلي المحبوس في الجسد. هاهنا تأتيك catherine millet لتستفزنا جميعا، الكاتبات منا على الخصوص، لتقول لنا إن خطاب الجسد هو خطاب إحراق استعاراته، ليس من حيث الوصف الدقيق لجسد الرجل في شعريته، كأنها تقوم بتوليد مفعولات الفانطازما، لا لتخفيها بين السطور بل لتتضمنها، مثلما يتعرى قارئها تماما كأنها تقوم باستفزازه وإحراق ما تبقى من الاستعارات البلاغية التي تستره. إن هذا النوع من الكتابة الإيروتيكية، والذي تعودنا قراءته بشكل مغاير عند georges bataille، يكتشف ثنائية الكتابة والجنس، بماهي موضوعة حفظها تاريخ الأدب العالمي، وأثارها كسؤال يستند عليه أي كاتب يخترق هذا المجال، فليس ببعيد ان تضعنا لعبة الكلمات في مجالها الجنسي، كما الحديث عن الورقة (مؤنث) والقلم (مذكر)، ليفضح المداد العلاقة تلك كأن الكتابة لذة كما القراءة تماما. Catherine millet تحيل إلى ذلك عبر الكتابة وعلاقتها بالقضيب، بل تدفع الأمر إلى أقصى درجات الجرأة بالحوار الذي تستحضره مع جسد الرجل، هنا تجد الكاتبات العربيات أنفسهن في حرج كأن الكتابة عن هذا الجسد يدخل ليس في المحرم فحسب بل في أقصى الكبائر، لكن، بالمقابل، يحلو لهن الحديث عنه شفاهيا في حلقاتهن الخاصة. قد يكون مبرر اللغة معقولا إلى حد كبير، ذلك أن اللغة العربية لا تتكلم الجسد، وإن تكلمت عنه فإن الخطاب يدخل ضمن النوادر... اللغة العربية إذن عائق ليس فقط حين الكتابة بها، بل في كيفية ترويج هذه الكتابة، بالإضافة إلى أن عالمنا العربي المتوج بالمحظورات المتعددة في اللغة والدين والجنس والسياسة، في الوعي وحتى في اللاوعي، بينما اللغة الفرنسية هي لغة الجنس بإمتياز، كأن هاته اللغة عرت محظوراتها ودخلت إلى عوالم أخرى لا يحتفظ فيها الرقيب بإية سلطة . إن ترجمة catherine millet الى اللغة العربية، وهي ترجمة تروم إلى مستوى يتحدد في ما يسميه الفقهاء عندنا بأن كل محظور مقبول، إنها ترجمة ستعرف تداولا كبيرا من طرف القراء، ولو بشكل سري، إذا قام فقيه أخرق بفتوى منعها. أما المستوى الثاني، وهو الأهم في نظري، ويتمثل في مؤسسة جومانا حداد للنشر والترجمة التي قامت بنشر هذا الكتاب. لنتوقف قليلا عند المشروع الثقافي لهذه الشاعرة اللبنانية المشاكسة والمتمثل في مجلة «جسد»، هذه المجلة التي وضعت موضوعة الجسد كسؤال ثقافي في أبعاده المتعددة. إنها مغامرة مستفزة لليسار واليمين معا، للمحافظين وللذين يدعون التحرر. لذا نتساءل اليوم: هل طرق الضوء تأتي من النساء في عالمنا العربي؟ تلك هي المسألة وذلك سؤال مفتوح لتقويض المنزلة بين المنزلتين.