لماذا لا تحتفل النخب السياسية والثقافية بأبنائها إلا بعد الفقدان؟ ما هي الأسباب العميقة التي تجعل أخلاق الاستبعاد هي الغالبة، ولا يُفرج عن بعض مشاعر الاعتراف إلا بعد الانطفاء والموت؟ هل تأسست بين الناس ما يشبه ثقافة جمعية للموت تمنعهم من الإقرار بقيمة الناس، مهما تفاوت الحكم عليها، أثناء حياتهم؟ من بين مفارقاتنا وهي كلمة عزيزة على صاحبنا كمال عبد اللطيف- في المغرب أننا كثيرا ما نقدر الناس بعد فقدانهم. وقليل منا من يجرؤ على تبني قيم الاعتراف بعطاءات الآخرين وهم في عز حضورهم. والتفاتة منشطي اتحاد كتاب المغرب اليوم جديرة بأن توضع في دائرة الاعتراف بعطاءات رجل لم يتوقف عن القراءة والكتابة والتواصل منذ أن جرفته موجة الفكر والثقافة مبعدة إياه عن مغامرات وتقلبات السياسة. وفعل التكريم هذا الذي يشارك فيه كل واحد منا بطريقته، أرى فيه إعلانا عن تكسير قاعدة الإنكار، وعنوانا لانفتاح أتطلع أن يتسامى عن الاحتفال العابر الذي يفترضه التكريم إلى المساهمة الجماعية في الجهر الواضح والجماعي بالالتزام بأصول الاعتراف بعطاءات كتابنا ومثقفينا وباحثينا. لأنه يبدو أننا مازلنا موزعين بين الخجل، والتشكيك، والعدوانية المجانية أو المجاملات الصغيرة. لذلك، ونحن في فضاء مكتبة موسومة ب «الوطنية»، وبمناسبة هذه الجلسة المقامة حول أحد أبرز مثقفينا وباحثينا في مجالات الفكر والثقافة، وفي سياق ما يتم تداوله، اليوم، من أسئلة وآراء وجدالات حول المثقف والثقافة، أريد بدوري أن أقترب من بعض الأسئلة التي لا شك تراود الكثير من الحاضرين معنا. لقد برز تباين كبير بين المثقف «الحديث» سليل الأنوار، الحامل للحقيقة، المشرع لما يجب أن يكون، وما بين المثقف اليوم، ولنسمه ما شئنا، المهم أن المرء يجد نفسه أمام مجموعة من الممكنات؛ يتمثل الأول في البحث عن فاعل تاريخي قادر على خلق شروط التغيير؛ ويتلخص الثاني في نسيان أي تصور شمولي، وإعلان اليأس من كل مشروع ثقافي، والتقوقع داخل مجال متخصص (كما هو الشأن بالنسبة للعلم أو الفن..)، ويعبر البعض عن الممكن الثالث (مثل ريشار رورتي) من خلال القول بوضع حد لكل دعوة كيفما كانت منطلقاتها ومقاصدها لأن في ذلك مضيعة للوقت ومشكلة مزيفة. يبدو أن مثقف اليوم عموما، يقترن بإيجاز شديد، بمفهوم غامض يؤشر على غياب الإيمان بتاريخ سعيد يتقدم من خلال أوجه متعددة تتبرم من كل مشروع شمولي. هذا ما يحصل على صعيد المناقشة العالمية حول المثقف ودوره في المجتمع، أما عندنا فقد بدأت بعض الأصوات تدعو إلى إعادة طرح سؤال المثقف والثقافة في الأسابيع القليلة. هل العودة إلى سؤال المثقف والمسألة الثقافية تفيد بأن الأمر يتعلق بحاجة نقدية أم هي نتاج شعور بخوف بلا جدوى الكتابة والتأليف؟ وهل الخلفية المحركة لهذه العودة يبررها التزام ما بقيمة الفكر بوصفه مدخلا لإشهار الحقيقة أن باعتباره مجالا معياريا لقياس الفاعلية والفائدة؟ إلا أن هذه الأسئلة تفترض بعض الملاحظات القليلة من بينها : أولا؛ أن المثقف أو المهتم بالمسألة الثقافية يشعر، أو يعي، حسب الحالات والأحوال، بشقاء نسبي ومتفاوت، بأن مجال إنتاج وتداول الأفكار والرموز والقيم يسود فيه قلق بارز، وحيرة تستوطن ذاتية من يجد نفسه داخل أو قريبا من هذا المجال. ومرد ذلك، على ما يبدو، إلى الإحساس بأن لا شيء على ما يرام، وبأن المعطيات لا تتساوق مع انتظارات المنتمين إليه، وبأن المرجعيات اهتزت، وبأن الحقائق التي كانت تبدو بديهية في الماضي القريب تحولت إلى أشكال من السراب لا تستجيب لأي مقياس من مقاييس التفكير والمساءلة. وهكذا نجد أنفسنا عند عتبة أقرب إلى عالم سوريالي حيث الالتباس سيد الموقف في اللغة والخطاب، والمنهج، والجدال والتبادل. ثانيا؛ يظهر أن المثقف المغربي، فضلا عن اهتزاز المرجعيات والقيم، بدأ يفقد الثقة في أفكاره وفي ذاته أمام سطوة وضجيج وسائل الإعلام. فالأطر التقليدية التي عادة ما كانت تسمح لهذا المثقف بالتعبير عن إنتاجه وأفكاره مثل الجامعة تتعرض للإهمال التدريجي، وحركت وسائل الإعلام، ولا سيما المكتوبة منها، أقلاما تصوغ خطابات تتقدم كأنها تمتلك الكفاية والمشروعية للحلول محل المثقف النقدي، والمؤرخ، ومحل السياسي المعارض، والأحزاب ..الخ. أمام هذا التالوث: انهيار الجامعة، ضجيج الإعلام، التباس الأدوار، يتقدم المثقف المغربي، باختلاف وتفاوت مجاله وعطائه، وكأنه فقد البوصلة، إذ نجد منهم من بقي متمسكا بأشكال مختلفة من «اللغة الخشبية»، على الرغم من التلوينات البلاغية، وتكرار الصيغ البالغة السطحية، ومنهم من يلتجئ إلى الصمت، إما احتجاجا على التلوث السائد أو الالتباس المستشري، أو توخيا للسلامة، وإما الإدعاء بأن التفكير لم يعد مجديا لأن الجمهور المفترض أن يتلقاه لا يرقى إلى مستوى إدراكه ومواكبته. وهذا مؤشر على وجود ما يمكن نعته بسهولة بالوعي الشقي. ثالثا، يعاني الوسط الثقافي، كما المجتمع المغربي برمته لربما، من غياب لآلية إنتاجية وتبادلية مبدعة تتمثل في مسألة الاعتراف. بقدر ما يشتكي المثقف من عدم اعتراف الآخرين، سلطة وهيآت ومؤسسات وجمهور. لا ينتج، هو بدوره، ما يستلزم من إشارات الإقرار بوجود الآخر، والقبول بقدرته على الاجتهاد والاقتراح والإنتاج. عالم من الأمزجة والحساسيات لا تنفرد به الجماعة الثقافية وحدها. حالات وعناصر لا تسعف الوسط الثقافي على إنتاج حركية فكرية ورمزية منتظمة قادرة على تطويق الأمية المستشرية، ولا في صياغة أخلاق للمناقشة والتواصل أساسها الإقرار بالتعدد والاعتراف باجتهادات الآخرين. تتكرس مثل هذه الحالات في وقت نعرف فيه أن المثقف المغربي ما يزال ظاهرة حديثة لا يتجاوز عمرها نصف قرن، خصوصا في مجال الكتابة الأدبية، والفلسفة، والعلوم الإنسانية. هل ما نزال نعيش ما يسميه عبد الله العروي ب «الفترة العاطفية» وبأن سؤال الوعي لا يكف يطرح على الإنتاج الثقافي المغربي المعاصر؟ ويجب الإقرار، مع ذلك، بأنه على الرغم من حداثة ظاهرة المثقف في المغرب فإن إنتاجاته وأعماله وأدواره في حاجة إلى تأريخ وتحليل ومساءلة. لقد تمكنت أسماء ومثقفون من أن يفرضوا ذواتهم على التداول الثقافي في المغرب خلال العقود الأربعة الأخيرة، على الرغم مما شهدته من محطات الصراع الكبير بين الثقافة والسلطة السياسية حول شرعية التفكير في الشأن العام، بل وحول التفكير ذاته. فالمعارك التي دارت حول الديمقراطية، والجامعة، والحرية والدولة والفن.. الخ سمحت بغلبة السياسي على الثقافي، وتواطأت عوامل منها ما يعود إلى التخلف الاجتماعي، والاستبداد السياسي، والأمية المركبة، وما يرجع إلى هشاشة البناء الثقافي، مما أنتج حالة من التشكيك والحذر والانتقاص من قيمة الفكر والمعرفة العصرية. في هذا المناخ العام تبدو لي الكتابة، كل كتابة، هي تعبير عن انتصار على كل أشكال الانتقاص، وعلى كل العناصر المقاومة للتفكير والسؤال، سواء كانت باسم السلطة أو الدين أو المؤسسة، ومن هنا أجد نفسي في حالة من الغبطة المزدوجة وأنا أشارك في هذا اللقاء التكريمي، أولا لأنه فعل اعتراف بعطاءات رجل، منذ أن انكوى بلهيب الثقافة والفكر وهو لا يتوقف عن البحث والتأليف والمشاركة؛ وثانيا لأن الأمر يتعلق بأستاذ كان لي شرف الاستفادة من دروسه في بداياته الأولى بكلية الآداب بالرباط. وأتذكر ونحن طلبة على وشك مغادرة الكلية في موسم 1979-1978، طلع علينا شاب يحاول إقناعنا، بأن هناك «فكرا عربيا حديثا» يتعين الوقوف عند بعض إشكالاته الكبرى التي يمكن إدراجها ضمن مجال الفلسفة. وقد كنا نناقشه ونسائله حول الجدارة الفلسفية لنصوص سلامة موسى، وفرح أنطوان ومحمد عبده. ولم يكن يتحرج، نهائيا، في التعليل بأن هؤلاء الناس لهم نظر وإنتاج يستحق المساءلة، والمواجهة، والإنصات. ولا أخفيكم بأننا، في ذلك الوقت، وتحت تأثير مدارس فلسفية كبرى من قبيل الماركسية والتحليل النفسي وغيرها من التأويلات المختلفة التي قدمها ألتوسير وتلامذته، وجاك لاكان، والنظرية النقدية، لم نكن مقتنعين، تماما، بشرعية إدراج الفكر العربي في شعبة الفلسفة. وقد نبهنا كمال عبد اللطيف وغيره إلى تسرعنا في الحكم، خصوصا وأن قضايا فكرية كبرى مثل العقل، والحرية، والدولة، والدين، والآخر، والتراث..الخ تحتاج إلى «تأصيل» فلسفي بدل الانجرار وراء إشكاليات الآخرين، أو التدريب على نقل بعض النصوص الفلسفية الجديدة إلى العربية. ويجب أن نعترف أننا كطلبة في ذلك الوقت كنا نعتبر أن الخزانة وساحة الكلية، التي كانت تشهد سجالات ومناقشات حامية، أهم من دروس بعض الأساتذة. ولأن درس كمال كان يتيح فرصة النقاش كنا نادرا ما نتغيب عن حصته. نفس الأمر كان ينطبق على دروس محمد عابد الجابري وعلي أومليل وعلي سامي النشار، وسعيد بنسعيد، ونجيب بلدي. كانت كلية الآداب في الرباط في ذلك الوقت فضاء استثنائيا للمناقشات واللقاءات والندوات. وأتذكر أن مناقشة دبلوم الدراسات العليا، في الفلسفة بالخصوص، كانت يشكل حدثا لم يكن يستطيع مدرج ابن خلدون احتضان عدد المتطلعين من الطلبة والباحثين للحضور وتتبع المنازلات الفكرية، وأنماط صياغة السؤال، والملاحظات المنهجية والنظرية، وأشكال الهجوم، وأحيانا المجاني، على الباحث أو على المشرف بطرق غير مباشرة. كانت مناقشة الأطروحات، في أعيننا حدثا بكل معنى الكلمة، ومختبرا تعلمنا منه الكثير، وحفزنا على المزيد من القراءة والتحصيل، خصوصا أن مناقشة بعض الأطروحات كانت تخرج من مدرج ابن خلدون لتجد لها، أصداء على أعمدة جريدة «المحرر» في شكل ندوات حول الأطروحة. وكان كمال عبد اللطيف من بين المشاركين الدائمين في هذه الأعمال الفكرية والتواصلية. ولكي لا أدخل في تفاصيل علاقتي بكلية الآداب بالرباط في بداية الثمانينيات لأن ذلك يتطلب وقتا كبيرا، بل وقابلية أكبر لتحمل النقد، أكتفي بالقول بأن علاقتي بكمال عبد اللطيف وبعدد لا بأس به من أساتذتي، ستتخذ أبعادا أخرى لما انتقلت إلى هيئة تحرير مجلة «الوحدة». إذ من طالب يتعلم سمح لي الموقع الجديد بأن أتحول إلى محرر يفحص نصوص أساتذته، ويقرر في شأن صلاحيتها للنشر. وهي تجربة غنية لا شك أنها تحتاج لمقام آخر لسردها واستعراض أسرارها وشخوصها وأحداثها. وهكذا من علاقة بيداغوجية إلى صداقة ثقافية وإلى زمالة مهنية مسار امتد على أكثر من ثلاثين سنة، وهي الفترة الزمنية التي نشر فيها كمال عبد اللطيف عصارة اجتهاداته، من سلامة موسى إلى المساهمة الأخيرة في بناء وتحرير التقرير العربي عن مجتمع المعرفة الذي أبى كمال إلا أن يشركني معه فيه. كمال قارئ محترف، وأسلوب مميز في التحرير والكتابة. نَهِمٌ. يحركه فضول معرفي نشط، وإن كان قد ابتعد عن الفعل السياسي المباشر فإنه بقي مسكونا بالظاهرة السياسية، درسها في مظانها من اليونان إلى الآن مرورا باللحظة العربية ودروس ماكيافيل ولوك والأنواريين. باحث ومؤرخ للأفكار لا يتردد في التأكيد بأن محاولاته في الفكر تتغيا إنجاز «قراءة مفكرة» في النصوص، وبأن معالجة الفكر العربي الكلاسيكي أو الحديث لا يمكن أن تكون منتجة إلا إذا نظرنا إليها من زاوية «وحدة تاريخ الفكر الإنساني». ففي كتابه «في تشريح الاستبداد» يرى أن الآداب السلطانية هي تكثيف لعملية تثاقفية، وتشكل حلقة في تاريخ الفكر السياسي الإنساني. لهذا يتعين إخضاع هذا التراث لاستيعاب تاريخي ونقدي قصد تكسير ما هو متكلس فيه لبناء «بدائل متعددة». وكل «تضييق للهوية»، «وكل استعادة تجييشية وجدانية للمنتوج التراثي، تساهم في مزيد من نشر البلبلة الفكرية، فلا تستقيم الرؤية ولا تتضح، فتنتعش لغة المفارقات»، خصوصا وأنه يستحيل، في كل الأحوال، إحلال الماضي محل الحاضر، أو فرض وعي تراثي على زمنية الوعي المتحركة. المعالجة المناسبة للتراث، عند كمال، تعني المواجهة النقدية الحازمة وتجاوزه، «بمزيد من تعيين غربته عن الأنظمة الحديثة»، وعلى الفصل بين المستويات في النظر والواقع، بين ما يحيل على مرجع قدسي، وما يتعلق بالنشاط البشري والشؤون الزمنية، بين ما هو ديني، وما هو أخلاقي وسياسي. ولأن ماكيافيلي يولي أهمية خاصة لنقد «الخطاب السلطاني» ويدعو إلى اعتبار السياسة مجال الصراع على المصالح الدنيوية؛ كما كان الشأن بالنسبة للتاريخ السياسي في الإسلام، فإن استثمار الماكيافيلية يشجعنا، حسب قول كمال، على «تطور نظرنا السياسي،خاصة وأن تاريخ الفكر السياسي ما فتئ يستلهم كل العناصر التاريخية القادرة على رفد مبادئ الحداثة بما يدعمها ويواصل تدعيمها كاختيار لا رجعة فيه». ويمتاز كمال في كتاباته بوضوح لاذع، لا يساوم على الأفكار. الفكر الحديث لديه مسألة مبدأ وقناعة واختيار. لا مجال لممارسة السياسة العصرية إلا بفصل الدين عن الدولة. تستفزه المفارقات، وينتفض ضد الالتباس. جارح في صراحته. عنيد في مساعيه. أمام حيويته المتدفقة، أشعر دائما بأنني كسول. ولأنني كذلك بالفعل كنت دائما أطلب منه مع أصدقاء آخرين أن يُعفي جسده وعقله من الإرهاق الزائد. وبحكم معرفتي بعناده، الذي هو غير مستعد أن يتنازل عنه، أريد أن أطلب منه، وبرفق كبير، أن يطلق العنان لذلك الفنان الذي يسكنه ويحرر ذلك النزوع الروائي الجارف الذي ما ينفك يحاصره. وأرجو أن يكون نصك «سنة الأحلام الراقصة» 2010، إيذانا بالذي أعلنت عنه فيه إذ تقول: «رأيت فيما يرى النائم، أنني أنهي رواية بدأت كتابتها منذ ما يزيد عن عشرين سنة، وفي كل مرة كنت أجد المبررات التي تحول بيني وبين إتمامها. إن استمرار شغفي بالتخييل، يجعلني أواصل كتابتها دون توقف.. فهل أتجه اليوم إلى ارتكاب حماقة وإنهاء الرواية، التي بدأت كتابتها ذات يوم في زمن مضى». هل نقل هنيئا لنا بك، أيضا، روائيا، راقصا، وحالما؟