يبدو أن إحدى الخاصيات الكبرى التي أضحت تميز الوضع السياسي العام في بلادنا أن الأزمنة قد تداخلت بشكل كبير، وذلك بنفس الصورة التي قد تتداخل بها الأزمنة في القصة أو الرواية الجديدة، بما يغير بنية السرد وشكل تقديم الوقائع، لكن هذا التداخل في الأزمنة، في السياسة المغربية يتميز، مع ذلك، بخصوصية تجعله حالة خاصة ونسيجا وحده، فالتداخل الزمني هنا يجري بطريقة غير متوازنة ولا متكافئة بالمرة، حيث أن أصحاب الحكي السياسي صاروا، في كل ما يصرحون به أو يكتبون، ينقلوننا رأساً الى المستقبل، وكأنهم يدعوننا الى نسيان البُعدين الزمنيين الآخرين، أي الماضي والحاضر، وهو ما لا نجده في البنية السردية للرواية الجديدة، حيث لا يفضي تداخل الأزمنة، المستوعبة لحوار الشخوص أو خصامها، في كل الأحوال، لا إلى القفز على الحاضر وإلغائه، ولا إلى إهمال الماضي وتجاهل مقتضياته. ما أن تفتح صفحة من الصحف اليومية، أو أسبوعية من الأسبوعيات، وتقترب من أركانها المخصصة للقضايا الوطنية، أو تشاهد برنامجاً تلفزيونيا يناقش فيه المتناظرون المدعوون قضايا تتصل بالوضع السياسي، حتى يطالعك، وبالبنط العريض، تاريخ صار يغطي على ماعداه من التواريخ والأزمنة، إنه 2012، والمقصود بالطبع موعد الاستحقاق الانتخابي لسنة 2012، تاريخ تحوَّلَ، في ذهن الجزء الأكبر من الطبقة السياسية إلى نوع من الهاجس القار المستقر، إن لم نقل إلى نوع من التركيز المرَضي Fixation بالمعنى الفرويدي. في الخطاب السياسي السائد اليوم، يظهر أن كل القضايا المفصلية ذات الصلة بهموم الحاضر وانشغالاته يجري الالتفاف عليها أو تأجيل الحسم فيما تطرحه من خيارات إلى أفق 2012، من التأقلمات والإصلاحات الاقتصادية الملحة التي يستدعيها زمن ما بعد الأزمة المالية العالمية، إلى النقاش المطلوب حول طبيعة المسار السياسي للبلاد، وقد أصبح عصياً على الفهم والقراءة وفقاً للقواعد التي اعتمدت بتوافقات أواخر التسعينيات، ومن الملفات الاجتماعية الساخنة إلى الإصلاحات الدستورية والمؤسسية، كل قضية أو ملف، على جانب من الأهمية، أو من الحساسية يجري تأجيل النظر فيه، أو ربط هذا النظر باستحقاق 2012 أو بما قبله بقليل أو بما بعده مباشرة. كل شيء يتم كما لو أن الطبقة السياسية عندنا اتخذت عمليا نوعاً من القرار الجماعي بجعل الحاضر في وضعية الستاندباي. تعطي هذه الطبقة الانطباع بأنها حزمت أمرها على تخصيص الحاضر برمته للتدرب على ما ستفرضه سنة 2012 من مهام وترتيبات وتحركات. الزمن الحاضر ملغى من دائرة الوعي، غير موجود، إذا كنا نقصد بالوجود، الحضور المادي لأفكار ترتبط عضوياً بما يطرحه علينا هذا الحاضر من مسؤوليات، والتفكير في خطط المستقبل لا ينتج، أو يترتب، بصفة منطقية، وبالتراكم عن التفكير في قضايا الحاضر ومشاغله ومعضلاته. كل شيء يتم كما لو أن الحاضر، بالنسبة لطبقتنا السياسية لم يعد يصلح إلا كوعاء زمني تتمكن خلاله من تعليب الأفكار والبرامج وحفظها بالتحنيط لاستخدامها في مستقبل قادم هو بالتحديد 2012. ضمن هذا المشهد الغرائبي، فإن الصراعات التي تطفو على سطح الحياة السياسية من حين لآخر، برموزها ونجومها المعروفين والمتقني الصنع هي في العمق، تمرينات وپروفات على كيفية احتلال أدوار ومواقع في خرائط مستقبلية، ووفق سيناريوهات يجري الإعداد لها في الحاضر، بحيث سيكون من السذاجة النظر إلى تلك الصراعات أو التعامل مع تفاعلاتها، كما لو كانت ترجمة أمينة لدينامية حقيقية يستدعيها واقع الحال في الزمن الراهن أو يفرزها بشكل موضوعي. ما هي دلالات تداخل الأزمنة في السياسة المغربية بالشكل الذي حاولنا مقاربته في الفقرات السابقة؟ وكيف نفسر هذا الذي يبدو هروباً نحو ضفاف 2012 من طرف عناصر طبقتنا السياسية ونحن لازلنا في منتصف الطريق من الولاية التشريعية الحالية، وفي وقت وزمن يفرض فيه منطق الأشياء والحس السياسي السليم أن تنكب عناصر هذه الطبقة على قضايا الحاضر، وأن تستخدم وقتاً لازال طويلا على كل حال (سنتين ونصف) في ملفات ضاغطة ترتبط براهن الناس وحاضرهم؟! سأجازف بمحاولة تقديم مشروع إجابة عن هذه الأسئلة الإشكالية بصيغة مركزة مع الوعي بأن هذه الصيغة المركزة قد تترك في الظل معطيات وعناصر تفسيرية أخرى لها بكل تأكيد وثاقتها وأهميتها: إن الهروب إلى المستقبل في المجال السياسي هو مؤشر كبير على استفحال أزمة التعامل مع الحاضر، بنفس الصورة التي قد يكون بها الهروب إلى التاريخ دليلاً قوياً على وجود توتر في العلاقة مع الحاضر والمستقبل، الهروب الى الماضي وشد الرحال رأساً إلى المستقبل بإلغاء الحاضر، هما وجهان لنفس الآلية السيكولوجية السياسية. وهكذا، فإن المستقبل الماضي، بلغة عبد الله العروي في الإيديولوجيا العربية المعاصرة هو الصدى المقابل للحاضر المهرب إلى المستقبل. كلاهما قفز في الفراغ. الهروب إلى الأمام هو السائد في الواقع الراهن، أما الهروب باتجاه التاريخ، وهو صورة أخرى من صور تداخل الأزمنة، فقد عرفنا منه فصولا ونماذج في الماضي غير البعيد. أذكر بهذا الخصوص أن أحد الأصدقاء بكلية الحقوق بفاس كان قد أثار انتباهنا ونحن في مقصف الكلية نتصفح الجرائد خلال فترة استراحة، ذات يوم من أيام أواسط الثمانينات، وقد كانت فترة جزر وخمول على مستوى الحركية السياسية، أنه لا يفهم كيف أن إحدى الصحف الوطنية اليومية الناطقة بالفرنسية، وهي شبه رسمية، كانت آنذاك تملأ أعمدة صفحاتها، بما فيها الصفحة الأولى أحياناً بمقالات ومعطيات إخبارية مطولة عن أحداث تاريخية من حياة الدولة تعود الى القرن السابع عشر، وأن هذا الحكي التاريخي يتكرر بصفة مسترسلة، وكأن الأمر يتعلق بكراسة دروس التاريخ وليس بصحيفة من المفروض أن تهتم بالجاري والراهن. وأتذكر أن ذلك الصديق كان قد أثار ضحكنا جميعاً حينما قال إنه كثيراً ما كان ينتابه السؤال وعيناه تقع على عنوان كبير في الصحيفة المذكورة عن ميلاد أو وفاة لشخصية من القرن التاسع عشر أو معركة تعود فصولها الى القرون الوسطى. ترى في أي زمن أنا؟ وهل نحن حقاً في ثمانينيات القرن العشرين؟! بالأمس هروب إلى التاريخ، و اليوم هروب الى المستقبل وفي كلتا الحالتين، فإن تداخل الأزمنة غير صحي بالنسبة للتطور السياسي. قد يقال مثلا، وما العيب في أن تهتم طبقتنا السياسية من الآن بمحطة 2012، أو ليست السياسة في كل الدنيا، وفي دنيا الأمم الديمقراطية العريقة، استباقاً للآتي وتخطيطاً مستمراً للمستقبل قبل مجيئه؟ والجواب: لنحذر القياسات المجردة، ولنستحضر دائماً أن القياس لا يستقيم مع وجود الفارق، والفارق هنا أن الاهتمام بالمستقبل عندنا هذه الشهور الأخيرة يتخذ صورة الهروب من الحاضر. ولا يمكن أن نجادل في أن الاستعداد للمستقبل شيء والهروب من الحاضر شيء آخر. كما لا يمكن أن نجادل في حاجتنا وحاجة التطور السياسي المضطرد الى مراجعة ما يتعين مراجعته في الحاضر، عوض الإلقاء بكل الثقل صدقاً أو بالخديعة على مستقبل لا نعرف حقاً إن كان قادراً على حمله.