تجتاز المنظومة التعليمية الآن، مرحلة مخاض عسير، حيث أبانت التجربة التي صاحبت عملية تفعيل وأجرأة الميثاق الوطني للتربية والتكوين ومقتضياته ،خلال العشرية المحددة له،عن اختلالات ونواقص اعترت النسق التعليمي ،في جوانب عدة. فجاء تنزيل البرنامج الاستعجالي 2009-2012 لتدارك الوضع وسد الثغرات وتخطي السلبيات وتوفير شروط النهوض و الانطلاق السليم وتهييء فرص النجاح. ومن الجوانب التي انصب عليها الاهتمام وحظيت بالأولوية القصوى،داخل المنظومة التعليمية جانب التكوين والتكوين المستمر.هناك قناعة ثابتة راسخة، لدى جميع المهتمين بالحقل التعليمي،بأهمية التكوين المستمر والحاجة إليه،وأولويته داخل أي نسق تعليمي يتغيا النجاح ويتطلع إلى النماء ويطمح إلى الارتقاء، نظرا لصلته بالفاعلين المباشرين وعلاقته بهم ،داخل المنظومة أي الموارد البشرية بجميع أصنافها ومكوناتها ،إلى حد أن بدونه تتعطل هذه الأخيرة وتتوقف، ويكون مآلها الفشل الذريع.بناء على ذلك، يتميز التكوين المستمر ،بكونه معطى مركبا يطبعه الشمول ،ويتسم بالحضور الدائم والاشتغال المستمر غير المتوقف ،والمراجعة الذاتية الدائمة بوصفه سيرورة مصاحبة للعملية التعليمية ومقرونة بالفعل التربوي في أوجههما وأشكالهما المختلفة والمعقدة. إن الرؤية التي لاتجانب الصواب،هي التي تنظر إلى التكوين والتكوين المستمر كضرب من ضروب الاستثمار الخاص لارتباطه التلازمي بالرأسمال البشري،والذي بدونه يستحيل أي رقي او تنمية لاسيما داخل قطاع حيوي كالتعلية الذي يعتبر قاطرة التنمية في بعدها العام والشامل، كما تدل على ذلك تجارب بعض الدول، منها اليابان وسنغافورة على سبيل المثال. يتطلب ورش التكوين المستمر إذن،وككل استثمار وضع استراتيجية وتخطيط شمولي مسبق ،واضح المعالم والاهداف ومخطط عمل قابل للأجرأة والتطبيق بشكل مدقق ،و يفترض فيه الحرص على توقع الحصيلةو النتائج في أفق التقويم والتصحيح،عبر توفير الشروط وخلق المناخات الملائمة. يلاحظ بخلاف ذلك أن هناك من يتصور التكوين المستمر عملية في غاية البساطة ،تتطلب فقط تحديد يومية معينة،ومهاتفة بعض الاقارب والاصحاب المحسوبين على الشأن التربوي وبرمجتهم كمؤطرين ومكونين ،وتخصيص فضاء بطعامه وشرابه ،وتوزيع بعض من الوثائق المنجزة سلفا وعرض بعض المحتويات المتضمنة في الاقراص المدمجة على المشاركين والمستفيدين من التكوين بشكل آلي ،وانتهى الامر.لتكون المحصلة النهائية دون ما هو منتظر ومأمول ،والدوران في حلقة مفرغة دون تجاوز نقطة الصفر. يعتبر ورش التكوين المستمر ،بلا أدنى شك،أحد الاوراش الشائكة ،ذو أبعاد علائقية متداخلة ومتفاعلة فيما بينها ،منها المؤسسي الاداري التسييري، التدبيري ،التربوي البيداغوجي ،التواصلي الاجتماعي،المعرفي الوجداني والانطلوجي حتى. بهذا المعنى لابد من تصور وموقف ،يوازي في مسؤوليته،الطبيعة المعقدة للتكوين المستمر يراعي دوره ووظيفته داخل المنظومة التعليمية وثقله فيها ،بوصفه إحدى رهاناتها ذات الاولوية،ورافعاتها الاساسية ،بدلا عن المنظور السطحي و»التسطيحي» للتكوين المستمر الذي يرى فيه مجرد إجراء إداري تمليه ضرورة نقل وتصريف مضامين التوجيهات والمذكرات الادارية-على أهميتها-قصد الاستباق والتعبير عن مدى الامتثال والتقيد الآلي ب»الاداريات» والتمترس،بعد ذلك،خلف وهم» الانجاز» المدون في محاضر وتقارير خادعة لتبرئة الذمة. يجب بدل منطق اللف والدوران ، وتبني نظرة وتصور يلامس جوهر الامور ،ينفذ إلى عمق الإشكالات ،الثاوية خلف المنظومة، ومنها، بالطبع،إشكالية التكوين المستمر بروح مفعمة بالصدق والاخلاص والقيام بمبادرات خلاقة قوامها الصراحة والوضوح،واختيار الموقف الايجابي والاتصاف بخصال الإقدام والشجاعة والجرأة والتشبث بمبادئ الحق والمسؤولية والواجب والضمير المهني والتشبع بقيم المواطنة الحقة. إن تكوينا مستمرا مؤطرا بهذه النظرة،يكون من اللازم،بله من الواجب على القائمين والساهرين عليه أن يتمكنوا من المعارف والنظريات المعاصرة المستجدة،ذات المشارب والمرجعيات المختلفة والمتنوعة ،المرتبطة بمختلف حقول المعرفة ،العلوم الاجتماعية سوسيولوجيا الادارة والتسيير المحاسباتي وعلوم الادارة والاقتصاد العصري وتكنولوجيا الاتصال والتواصل دون إغفال علوم التربية والبيداغوجيا بطبيعة الحال.وأن يمسكوا، بموازاة ذلك ،بناصية المناهج والطرائق التي تمتح من هذه المرجعيات وأن يتسلحوا بأدواتها وآلياتها لتوظيفها في تسليط الضوء على واقعنا التعليمي وسبر أغواره،من أجل تشخيص الاختلالات ورصد نقاط الضعف في أفق المجاوزة ؛للمساهمة في تقويم وتصحيح منظومتنا التعليمية ،وفي تعبيد الطريق نحو التنمية المجتمعية المنشودة. إن قوة الواقع والاشياء، تدل في الغالب الاعم،على أن من أبرز الاختلالات التي تطفو على السطح-وبالطبع مع الاختلاف من واقع لاخر-هناك سوء التسيير والتدبير والتنظيم والتنسيق والاشراف والمراقبة والمحاسبة.وإذا كان لذلك من دلالة،فإنما يعني غياب خارطة طريق واضحة من قبل المسؤولين عن التكوين المستمر ،والتعامل مع مجريات الامور بمقولة»دعه يسير دعه يعمل»أو بحسب العبارة الجارية على الالسن»سلك ودوز» «سلك احسن لك»وما يرافق ذلك من لامبالاة ،وهدر للوقت والمال وضعف في المردودية؛لتكون النتيجة بدون أية قيمة مضافة تذكر للتكوين المستمر،اللهم كتزجية بالوقت. ومرد ذلك عيوب الارتجال والتخبط العشوائي والتعامل الآني ،وغياب التحسيس والتحفيز بالنسبة لورش مصيري من حجم التكوين المستمر .هذا دون إغفال سلطة العادات المترسبة،والتي ظهرت كنواتج لها ،عقليات متحجرة ومتكلسة تمارس الشطط الاداري وتفتقد أبجديات التسيير الاداري والتدبير المؤسسي العصري الضروري،وغير متشبعة بما يكفي بأخلاقيات المهنة وحسن التعامل التربوي والبيداغوجي .هنا بالضبط تسعفنا بعض التخصصات المعرفية ذات الصلة بالقطاع،حيث يغدو تدخلها ضرورة ملحة لا مناص منها،كسوسيولوجيا الادارة لقياس مدى تحجر العقليات ودرجات البيروقراطية المتصلبة المتبعة والشطط وأشكاله،وتأثيرات ومفاعيل ذلك على تنظيم التكوين وتنسيقه وصياغته ونتائجه ومردوديته والامتدادات والانعكاسات المرتقبة لكل ذلك على النسق التعليمي برمته. ونلحظ في سياق المعيقات التي تقف حجرة عثرة أمام التكوين المستمر والانجازات المتوخاة من ورائه،الطريقة البدائية التي يتم تصوره بها في غالب الاحيان،حيث يعرض كمناسبة لإشباع البطون بدل العقول والاستفادة مما لذ وطاب من موائد الطعام وأطباق المأكولات وكؤوس الشاي وفناجين القهوة.ومن الطرائف المتداولة والشائعة في هذا الباب أن التحفيز،عادة،ما يكون بإخبار المستهدفين بالتكوين بوجود الطعام والتغذية ،هكذا...؟؟وما مجريات التكوين الفعلية داخل الفصول والقاعات ،سوى ذريعة و مطية للأهم وهو المأكولات والمشروبات...والاسترخاء بعد ذلك. عادة ما يقال فاقد الشيء لا يعطيه.وبالفعل حين تغيب الكفاءة والمؤهلات ،ينعدم التصور الاستراتيجي لأي عمل وتصبح الخطة ورسم الاهداف في خبر كان.؛بل الأخطر من ذلك ينفرط عقد المسؤوليات ،وتصير المحاسبة البعدية ضربا من ضروب السراب و الوهم .فيشرع الباب على مصراعيه للإرتجال بدافع الهواجس النفعية (الارتزاق)والظفر بتعويضات غير مستحقة وتتحول أيام التكوين إلى مناسبة للظهور والاستعراض والمباهاة والمفاخرة ،ليصبح كل شيء فراغ في فراغ ،وبما أن الطبيعة تخشى الفراغ ،تتفشى سلوكيات العبث واللامبالاة وسوء التقدير والاستخفاف بالواجب وتنويم الضمير وتغييبه ؛وتنقلب الاموروالقيم رأسا على عقب ، وتصبح الجدية والتحلي بها مثار هزل وعلامة على «غياب الذكاء»و»ضعف الفهم» أو «افراط في الفهم»...الخ وبالنتيحة يتم الانجرار وراء الاخطاء والتمادي فيها ،والتقوقع في ممارسات متخلفة ،تترسخ مع الوقت والعادة،وتتجذر ،لتعيد إنتاج ذاتها بكيفية آلية وتصير وكأنها جزء لا يتجزأ من ممارسة المهنة وتدخل في باب العادي والمألوف. عود على بدء، للتكوين المستمر فوائد جمة، فإن هو وضع في إطاره الصحيح وحظي بالإهتمام والرعاية اللازمين في نطاق ما تخوله المسؤولية المؤسساتية والادارية بدءا من التخطيط والصياغة والتنظيم والتنسيق وخلق الشروط وابتكار الآليات الملائمة والمساعدة على التطبيق والانجاز الامثل ،والوقوف على النتائج وتدوين الإستنتاجات والخلاصات ،كنقطة انطلاق للتقويم والتصحيح.لذلك لم يتم التنصيص عبثا،على التكوين المستمر ،في الميثاق الوطني للتربية والتكوين والمخطط الاستعجالي والتأكيد على دوره الرئيس واعتباره من المرتكزات الاساسية الداعمة للمنظومة ؛ناهيك عن حضوره المحايث والمساوق في الادبيات التربوية والبيداغوجية والمؤسساتية. وبالرجوع إلى تجارب الأنظمة التعليمية المتقدمة والرائدة ،نلفي التكوين المستمر في قلب انشغالاتها ؛بوصفه قطب الرحى، لامتداده إلى باقي عناصر ومكونات النسق التعليمي ؛داخليا وخارجيا.إنه بمثابة المرآة التي تعكس دينامية النسق وسيرورته المتبدلة والمتحولة ،و بمنزلة الضوء الكاشف الذي يضيئ التخوم والاطراف . لذلك، يغدو من الضروري والواجب الانفتاح على تجارب الدول الرائدة في مجال التربية و التعليم للإستفادة منها واستثمارها،بدون مركب نقص أو شعور بالدونية ؛لكن ليس عبر التلقي الميكانيكي السلبي ،وإنما من خلال عملية مثاقفة إيجابية تروم الاستيعاب الجيد للنظريات والتصورات المعرفية المستجدة فيها،وتستهدف الترويض المحكم للمناهج وتطويعها وتبيئتها لاستكشاف قارتنا التعليمية وشق الدروب والمسالك الكفيلة بوضع قطارنا التعليمي على سكة التنمية والتقدم.إن التراكمات النظرية والمنهجية التي تحققت على صعيد علوم الادارة والاقتصاد وسوسيولوجيا التنظيمات وتخصصات ومجالات معرفيةأخرى،صارت مفيدة اليوم،في نطاق هذا التوجه.وذلك بمعيارالوجاهة والدقة ودرجة العقلانية ، هذافضلا عن إسهامها الغني في مجال التنمية البشرية. ثمة قناعة لدى أصحاب الرأي المتشبع بقيم التقدم والحداثة، مفادها ان الحكامة الجيدة -بصفتها نتاج وإفراز لسيرورة تاريخية طويلة ومعقدة ،يتداخل فيها الجانب الاجتماعي، السياسي والتنظيمي والعلمي المعرفي بالجانب الثقافي والايديولوجي-أضحت ،في الوقت الراهن ،مطلبا ملحا لايحتمل التأخير أو التأجيل. حقيقة لايتناطح حولها كبشان. الحكامة بآلياتها ومفاهيمها، وتطبيقاتها المختلفة في مجالات التنظيم ،العمل، الإدارة ،الاجتماع ،الاقتصاد والسياسة...،هي الدليل والمرشد،والبوصلة الموجهة ؛والتي بدونها يصعب تحقيق ،بل حتى الحديث عن التقدم والتنمية والحداثة.لذا على استراتيجيات التكوين المستمر أن تضع في حسبانها،أثناء تناول هذا الورش،وضع لوحة قيادية متضمنة لمخطط استراتيجي وبرنامج عمل أساسه الإصغاء والتواصل والتوجيه الحكيم ؛وقائمة على تدبير تعاقدي بمنهجية تشاركية وفق تدبير بالنتائج ،من خلال رصد الحاجيات وقياس الكلفة مع النتائج وضبط قاعدة المعطيات وضبط مؤشرات التتبع ؛والقيام بالتأطير الضروري لذلك،داخل نطاق الشرعية والمشروعية،بالمواكبة اللازمة وتحديد مسؤوليات المتدخلين ،مع ما يلزم من تفعيل لآليات المراقبة والمساءلة والمحاسبة،لضمان الفعالية والاقتصاد والنجاعة...يقتضي الأمر إذن ،القيام بجهد قصد الاستيعاب المتبصر لهذه المفاهيم وتطبيقاتها المختلفة وإخضاعها لسيرورة تمثلية نمائية ومتنامية،وعكسها على مختلف مجالات الفهم والسلوك والعمل والممارسة. ويبقى ورش التكوين المستمر في عياط ومياط دون شفعة من قريش،ما لم تتوفر الارادة الحقيقية للإصلاح ؛وأخذ الامور على محمل الجد،لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل، فوات الأوان.