إذا أراد المرء اليوم القيام بإحصاء في خطاب وسائل الإعلام العربية، المسموعة والمرئية والمكتوبة، لمعرفة أي الكلمات أكثر رواجاً فيه، فإنه سيصل إلى النتيجة التالية: «الإرهاب» في عبارة «محاربة الإرهاب». ويمكن تفسير اقتران اللفظين (الإرهاب - محاربة...) بإضافة اسم الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن. ذلك لأنه هو الذي رفع شعار «محاربة الإرهاب»، بعد الحادثة التي تعرضت لها الولاياتالمتحدةالأمريكية في 11 سبتمبر 2001، وظل يرفعه طوال ولايتيه الأولى والثانية، الشيء الذي يسمح للمؤرخ لمفردات رؤساء الولاياتالمتحدةالأمريكية أن يسجل بكل سهولة أن خطاب بوش، طوال مقامه في البيت الأبيض، كان يدور حول كلمة واحدة هي «الإرهاب». وها هو أوباما، وفي جانبه رؤساء كبرى دول أوروبا، يرددون نفس الشعار: شعار «محاربة الإرهاب»، تماماً كما كانوا يرددون بدون كلل أو ملل شعار «محاربة الشيوعية» قبل سقوط الاتحاد السوفييتي! إن التمسك بلفظ «الإرهاب» صار «ضرورة خَطابية» عند الدول الغربية، تماماً كما كان لفظ «محاربة الاستعمار» لدى زعماء وقادة دول العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات. وأنا أعني بعبارة «ضرورة خَطابية» (بفتح الخاء نسبة إلى الخَطابة)، بمعنى أنه لو طلب من هؤلاء وأولئك أن يحذفوا من قاموسهم اللفظ الذي يرفعونه شعاراً لما استطاعوا الكلام. ومما يزكي هذا الافتراض أن حذف لفظ «الإرهاب» من الخطاب السياسي لقادة أوروبا الذين نحوا نحو بوش قد يفسح المجال للفظ آخر يغيبه هذا الخطاب بكل إصرار، أقصد لفظ «المقاومة». تماماً كما أن حذف لفظ «الاستعمار» من خطاب قادة العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات قد يفسح المجال للفظ آخر، كان شعار «محاربة الاستعمار»، يغيبه بكل إصرار أيضاً، أعني «الديمقراطية». وفي نظري فإن تغييب لفظ المقاومة وإحلال لفظ «الإرهاب» مكانه، وإقصاء كلمة الديمقراطية وإحلال لفظ «الاستعمار» شيء لا يفسره غير الرغبة في نشر وتعميم العَمَى السياسي. إن هذا لا يعني أن «الإرهاب» غير موجود ولا أن الاستعمار قد رحل نهائياً، ولكن التعامل معهما ك«الشجرة» التي تخفي «الغابة» لا يفسره سوى الخوف من استرجاع العقل السياسي، هنا وهناك، سلامة البصر والبصيرة. ذلك لأن تعريف شيء من الأشياء يقتضي فصله عما ليس هو إياه، وقديماً قالوا: «بضدها تتميز الأشياء». وواضح أن تعريف الإرهاب يقتضي تمييزه عن شيء آخر، خصوصاً ما فيه مظنة أن يلتبس به. وليس هناك شيء أقرب إلى أن يلتبس به مفهوم «الإرهاب» من مفهوم «المقاومة». والشيء نفسه يقال عن رفع شعار «محاربة الاستعمار» عندما يراد منه تغييب الديمقراطية، بمعناها الواسع، السياسية منها والاجتماعية. والسياسة الأمريكية لا تريد أن يستعيد العقل السياسي في الولاياتالمتحدة مفهوم المقاومة، خصوصاً ولهذا المفهوم مكانة رفيعة في تاريخها. فقد قام الشعب الأمريكي بمقاومة الاستعمار الإنجليزي فحقق استقلاله وشيّد ولاياته المتحدة التي أصبحت أقوى دولة في العالم. ومن دون شك فإن استعادة ذاكرة الشعب الأمريكي لتجربة المقاومة التي خاضها أجداده سيؤدي إلى الاعتراف بالمقاومة الفلسطينية والتعاطف معها. وهذا ما لا تستطيع تحمله السياسة الأمريكية المُطبَّقة محلياً، لأن في ذلك إلغاءً لهذه السياسة. والشيء نفسه يصدق على شعار «مقاومة الاستعمار» حين يراد منه تغييب شعار الديمقراطية في العالم الثالث. هذا جانب. وهناك جانب آخر يمكن التعبير عنه ب«العمى الفقهي» الذي أصاب بعض الأبصار والبصائر التي تلتمس للفظ «الإرهاب» مرجعية في القرآن الكريم، وللفظ الديمقراطية أصلا في مفهوم «المستبد العادل».