على قرون الرغبة يدور الشعر في ديوان الشاعر المغربي محمد مسعاد الجديد «زغب المياه الراكدة» الصادر حديثاً لدى «دار الغاوون». يقول مسعاد كلامه حول امتداد الجسد، ودوران الأرض ومياه اللغة، يستنتج أن طاقة الرغبة هي المحرّك الوحيد لدينامو هذا العالم. يخلق مسعاد في ديوانه هذا مطراً يهطل إلى ما لانهاية العبارة، أجساداً تتململ بارتعاشاتها كما يتبلّل الفم بالكلام. داخل القصيدة يستريح عالم «من ثقل الإسمنت»، يسترخي الوقت في بانيو المتعة، وتتصاعد اللغة نحو ذروتها ونيرفاناها. قصائد تشبه السُّكْر هي التي يقترفها الشاعر، الذي لا يرى بين المحيط والمحيط سوى «زغب المياه الراكدة»، أي لا يرى بين النشوة والنشوة سوى وقت مستقطع من عمر الرغبة المديد واللجوج. فالبعد الروحي لا يحضر في القصيدة إلا بعدما يتصاعد الجسد علوّاً وصولاً إلى اللامادة، بعدما يذوب الزمن في بُعدٍ آخر هلاميّ. اللغة، على هذا، النحو هي هبة عُلوية تُمنح للشاعر «كلما لملمني الجسد/ أرى الله يرميني بمحبّة اللغة»، وهي لغة لها رائحة، لكنها رائحة تذهب بالمحسوس نحو نهايته أو حتفه «العطر يذهب بالجسد نحو التلاشي». وتبقى الشهوة معبودة وحيدة، تُرفع لها نذور الليمون، وتُرجى المرأة كي لا تبخل بها «امنحيني ليمونة الشهوة»، لأنها وحدها القادرة على تحويل الوقت إلى «وقتٍ شهيّ». لكن الشاعر لا ينفكّ يخوّض في المياه: مياه الحزن ومياه اللذّة ومياه التلاشي، متّبعاً خيطاً ضئيلاً من لغته «مهلاً أيها العابر في الماء». وإزاء تلازم اللذّة والحزن، يدور التاريخ كلّه في الخارج: «التاريخ ينفث الرجال/ كما ينفث كاسترو كوبا». وفي النهاية، يُطمئن الشاعر إلى استمرار دوران التاريخ واللذّة والحزن: «لن ينتهي الجسد ما دامت الأرض فينا على قرون الرغبة تدور». لغة تشفّ ببساطتها لغة محمد مسعاد. لغة واضحة سيّالة قليلة النتوءات، تستدرج الصورة إلى كمائنها، والفكرة إلى فخاخها. تحتدّ أحياناً، إنما بجرعة شعرية واضحة، وأحياناً كثيرة تنوسُ بما يكفي لإضاءة الصورة أو الحالة الشعورية التي يرغب الشاعر في سبرها. بسبب الحضور الحميمي لأسماء أصدقاء شعراء وكتّاب أهداهم قصائده محمد مسعاد، تكاد تخال هذا الديوان ألبوماً شعرياً لتوثيق حيوات - صداقات عديدة تنمو على أطراف حياة الشاعر. هكذا تتداخل المرآة في الوجه، والذات في الآخر، فنقرأ قصائدَ نضرةً يؤذيها أحياناً بعض السهولة المفرطة، وأحياناً كثيرة تغتذي من هذه السهولة بالذات، فتكتسب جاذبية إضافية. من قصيدة بعنوان «الشاعر»، وهي مهداة إلى الشاعر حسن نجمي، يقول مسعاد: «أرخت/ بظلالها/ الحياةُ/ ورمت به/ ضيفاً على خاطر الحال/ فهو ليس ملاكاً ولا شيطاناً/ إنه سيّد حياته الصغيرة/ وملكاته الأربع/ يلملم هشاشة الوقت/ ويفتح في الأوزون/ ثقباً جديداً/ للابتسامة/ والكلام». مفردة «زغب» التي تتصدّر العنوان، تبدو أمينة لحالتَي الدفء والطفولة اللتين تُغلّفان الكثير من قصائد الديوان، ممتزجتَين في مواضع عدّة بالشهوة أو الشهوات أو حتى «الشهوات بالتقسيط المريح» (عنوان قصيدة في الديوان). وإذا كانت عبارة «المياه الراكدة»، لا توحي بغير الجمود والثبات، فإن الزغب الذي سبقها، مُبتدأً، كفيلٌ بتحريكها وصناعة دوائرها على مثال ما يصنع الحجر دوائر الماء. جدير بالذكر أن محمد مسعاد من مواليد العام 1967 في الدارالبيضاء بالمغرب، يعيش في ألمانيا منذ العام 1998، وهو المحرّر الثقافي لموقع «الالكترون». وهذا الديوان هو الأوّل له.