- تحدثتم أستاذ عن إصلاح القضاء في ندوة مراكش المنظمة من طرف المجلة المغربية للسياسات العمومية، وقلتم أن الجميع استنفد تفاصيل التشخيص، والوقت قد حان للمرور إلى طرح البدائل الموضوعية والعميقة داخل ورش القضاء، ما هي في نظركم البدائل الممكنة لذلك؟ - بالطبع لا يمكن لمرحلة التشخيص أن تستمر إلى ما لا نهاية، فالتشخيص هو مجرد مرحلة لتحديد مكامن الخلل تمديدا للمعالجة الإجرائية التي هي بدورها ليست هدفا في حد ذاتها بقدر ما هي وسيلة والغاية هي تجاوز مكامن الخلل من أجل عدالة ناجعة قوية وفعالة تحظى بثقة جمهور المتقاضين. ومكامن الخلل كما حددها التشخيص هي بالإجمال خلل على المستوى المؤسساتي بخصوص موقع القضاء ضمن منظومة السلط داخل الدولة، وكذا وضع المجلس الأعلى للقضاء ككيان لم يأخذ بعد وضعه كمؤسسة دستورية قائمة الذات ومهيمنة حصريا على كل ما يتعلق بالمسار المهني للقاضي، ولها أيضا حضور في كل ما يتعلق بالشأن القضائي. هناك أيضا خلل على مستوى البنيات القانونية التي كرست على مدى عقود هذه الوضعية، والتي يتعين إعادة النظر فيها كدعامة أساسية لمشروع الإصلاح، والمقصود هنا بالأساس النظام الأساسي لرجال القضاء الذي نأمل أن يتطور إلى نظام أساسي للسلطة القضائية، والنظام الداخلي للمجلس الأعلى للقضاء الذي نأمل أيضا أن يتم إدماجه ضمن هذا البناء القانوني ليصبح له قوته الملزمة في أفق استقلالية تامة للمجلس عن وزارة العدل ماديا وإداريا وماليا، ويشمل الأمر أيضا عددا من التدابير الموازية تتعلق بتأهيل النيابة العامة لتصبح أكثر نجاعة في تمثيل الحق العام والدفاع عنه دون إغفال وضع الجهاز الإداري المواكب للعملية القضائية ميدانيا ونعني به كتابة الضبط وجهاز الضابطة القضائية. هذا على مستوى المنظومة القضائية بمفهومها الضيق، على أن إصلاح العدالة يتسع أيضا ليشمل مهنا وثيقة الصلة بالممارسة القضائية كالمحاماة، والخبراء والموثقين والعدول ليتضح مدى تشعب وتركيب مشروع الإصلاح، الذي يتطلب بحكم هذا التشعب والتركيب سيرورة دائمة لتجاوز المثبطات والعوائق. على أن يتم ذلك كله ضمن منظور يضع في اعتباره المقوم البشري الذي ينبغي إيلاؤه الأهمية الأساسية، من حيث التأهيل المهني الذي يعتمد الكفاءة والاستحقاق والسلوك القويم المشبع بقيم الحق والعدل ومثل النزاهة والتجرد للقطع مع زمن الانحرافات والتجاوزات، وكذا من حيث الوضع الاجتماعي الذي يعتبر مؤشرا مهما على الوضع الاعتباري المنشود لهذه الفئة. نعم لذلك كله كلفته المادية، لكن استقرار المؤسسات وسيادة قيم العدل والمساواة والحرية، هي أهداف سامية لا تقدر بثمن. - تتحدث جل مكونات الجسم القضائي في المغرب، عن أن إصلاح القضاء لم يعد ذلك المطلب السياسي الروتيني، بل أصبح في قلب انتظارات الفاعل السياسي والمجتمعي، ألا ترون أن هذا النقاش العمومي المفتوح حاليا حول سؤال الإصلاح، أمر إيجابي مقارنة بالسنوات الفارطة؟ - لا يمكن للمتتبع إلا أن يسجل بارتياح المنهجية التشاورية التي اعتمدها مشروع الإصلاح، ليس فقط على مستوى إذكاء النقاش العمومي بخصوص العدالة كشأن مجتمعي بامتياز، ولكن أيضا على مستوى إشراك الفاعلين والفرقاء في صياغة وبلورة برنامج للإصلاح قابل للتطبيق على أرض الواقع، وهو ما يجعل من مشروع الإصلاح ميثاقا مجتمعيا تشاركيا، ينشأ عنه التزام أخلاقي ومعنوي تجاه تفعيل المخطط والحرص على نجاحه. - دعا جلالة الملك في خطاب رسمي بضرورة إقرار ميثاق وطني للقضاء وإدخال إصلاحات شاملة وعميقة عليه، أين نحن الآن من هذا الميثاق؟ - الميثاق ليس بالضرورة وثيقة مكتوبة يصادق عليها الجميع بقدر ما هو التزام أخلاقي ومعنوي لكل الفاعلين يؤطر مشروع الإصلاح ويشكل خلفيته الفكرية والفلسفية ينتج في نهاية المطاف استعداد لدى الجميع للالتزام بالقوانين والميكانيزمات المؤسساتية المعتمدة لإجرائه. وطيلة فترة هذا النقاش العمومي كنا بصدد تحديد معالم هذا الميثاق وأهدافه ، والذي شكلت التوجهات الملكية كما وردت في خطاب جلالته بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب مرجعيته الرسمية والأساسية. - هل تعتقدون أن الإصلاح المتحدث عنه لن يمر بالضرورة بمقاومات خصوصا وأن الجسم القضائي تعتريه أمراض داخلية وإكراهات ذات طبيعة تاريخية قد تفرمل هذا التغيير المنتظر؟ - أي إصلاح هو في جوهره عملية تجاوز لواقع معين. ومن هذا المنطلق من الطبيعي أن يصطدم بالمألوف والمعتاد وسلوكات تكرست في داخل السياق الذي نحاول تجاوزه، ولذلك فالمطلوب أن نشتغل أيضا على خلخلة البنيات الثقافية السائدة في المنظومة القضائية التي ظلت إلى الآن خارج كل هذا النقاش الدائر حول المشروع المجتمعي المنشود والذي يشكل إصلاح القضاء إحدى دعاماته، وهي في نظري أصعب مسارات الإصلاح، لأنها تتطلب تغيير ذهنية كرست لدى الجسم القضائي على مدى عقود أنه مجرد جهاز للتطبيق الآلي للمادة القانونية، وذلك في اتجاه الانفتاح على المنظومة الحقوقية وقيم العدالة الكونية. - الجديد اليوم أن القضاء والإشكالات المرتبطة به متماه مع إرادة سياسية قوية، وأنتم عشتم وسط الزوبعة التي كانت تثار كلما تحدث السياسيون والمعنيون عن ضرورة دسترة القضاء كسلطة، وتعرضتم للتوقيف، وأسستم جمعية للدفاع عن استقلال القضاء، ألا ترون أن هناك تغييرا استراتيجيا وقع في العقل السياسي المغربي تجاه هذا الملف؟ - نعم الإصلاح القضائي أو إصلاح القضاء هو اليوم مشروع مجتمعي لا يمكن عزله عن سيرورة الإصلاحات الحقوقية والقانونية والمجتمعية الأخرى التي راكمتها الحركية المجتمعية على مختلف الأصعدة، وكنا من جانبنا فاعلا متواضعا ضمن هذه السيرورة بقدر ما يسمح به موقعنا، وطبعا لكل حركية كلفتها، التي كانت بالنسبة لي والحمد لله متواضعة ولا تكاد تذكر بالقياس إلى معاناة كثير من الفاعلين. في هذا السياق كان تأسيس الجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء مع ثلة من الإخوة الصادقين الذين أحييهم بالمناسبة، في فترة ميزها فراغ الساحة القضائية والحقوقية عموما فيما يخص هذا الجانب الحقوقي الدقيق. أما حادث التوقيف فقد كان حادثا عرضيا له سياق آخر هو في بدايته مجرد نقاش قانوني بشأن الإجراءات المسطرية الخاصة بمحاكمة القضاة والتي يجادل فيها بعضهم إلى اليوم، رغم أنها إجراءات قانونية تأخذ في الاعتبار حساسية الموقع والوظيفة التي ينبغي أن لا تبقى عرضة للاتهام المجاني.