بعد أن قام بإضراب مفتوح عن الطعام بالدار البيضاء، احتجاجا على قرصنة مشروعه الاحتفال بذكرى 12 قرنا على تأسيس مدينة فاس، وبعد أن كتب العديد من الرسائل إلى كل الشخصيات والمؤسسات المعنية من اجل إنصافه وتمتعيه بحقوقه المعنوية والمادية، وبعد إعطاءه العديد من التصريحات والحوارات الصحفية التي توضح ملابسات وحيثيات هذه القضية، التي يصمم أحمد بن الصديق على عدم نسيانها لأنها تتعلق بتاريخ مدينة فاس بل بتاريخ المغرب كله، هاهو اليوم يقبل على تلخيص قصته الغريبة في شكل مقامة جميلة، وكأنه يريد من خلالها تأريخ هذه القضية للأجيال الصاعدة لكي تدخل هي الأخرى في سجل التاريخ العريق لهذه المدينة العلمية، لكن السؤال المطروح هل سيشفى غليل احمد بن الصديق بعد هذه المقامة الفاسية؟ أم أن النار ستبقى زاندة في قلب هذا المهندس المغربي المحب لتاريخ بلاده، وهل سيندمل الجرح الغائر، أم أن أسباب در الملح عليه لازالت كامنة والتي ستزيد من حرقته وعدم شفاءه إلى الأبد. المقامة الفاسية حدثنا أبو المحاسن المراكشي قال: قادتني الأقدار منذ أيام، إلى لقاء إخوان يشاطروني المرام، يعشقون مساءلة التاريخ و سَبْر ما فيه من أغوار، ما بين إقبال أيامه وإدبار. قال أحدهم : يا إخواني المغاربة، يا من تتقاسموني الأرض المعطاء، والطبيعة الفيحاء، يا من جُلتم الحواضر والبوادي، ولبيتم نداء الوطن المنادي، لتزدادوا بوطنكم معرفة و فخرا، وتستلهموا من عِبَر تاريخكم زادا و ذُخرا، فتستنطقوا الصخور والبنيان، و تلامسوا منطق العمران، وتبصروا تعاقب التجارب، و تمحصوا المخطئ و الصائب، ثم أنشد: ليس بإنسان ولا عاقل من لا يعي التاريخ في صدره ومن وعى أخبار من مضى أضاف أعمارًا إلى عمره ثم قام سائلا: ما قولكم في مَنْ ضيَّع أجمل فرصة على جميلة الدرر، عاصمة إدريس الأزهر، لما استكملت من القرون اثني عشر ؟ فأجاب آخر: لعلك تقصد ذلك التخليد، المشروع الحضاري الفريد، الذي أشرق في حلة راقية، واستنهض النفوس العالية، لرفع صورة البلاد في الآفاق، وإبراز تراثها الحضاري الخلاق، حتى انقضّ عليه ذوو الإخفاقات الكروية، وأبطال الانتكاسات المدوية، فهدموا ما بَنَتْهُ السواعد، ونسفوا البنيان من القواعد، فأفرغوا الحدث من أسباب الاعتزاز، وأثاروا في الناس أعمق اشمئزاز، تسلَّموه حلما جميلا، وحوَّلوه كابوسا ثقيلا. فقال ثالث : ولكن زعيمهم بعيدٌ عن حقل الحضارة، وما له في الثقافة أية شطارة، ما هو إلا تاجر يراقب الربح والخسارة. ليته عرف قدر نفسه، ولم يستكبر على بني جنسه، لما خاطب الناس بغرور وخيلاء، وأهان الوطنية بلا استحياء، وتجاهل قدر العربية، وأنشأ يغازل الفرنسية، فرفع شعار الرداءة، ولبس من الفشل عباءة، وأغرق في التفاهة والسخافة، حتى ثار في وجهه أهل الصحافة، فغادروا القاعة احتجاجا وغضبا، و سدَّدوا له من أقلامهم سهاما و شهبا، ثم تلعثم في الكلام، من البدء إلى الختام، فكان كمَنْ سكت دهرا و نطق كفرا. فقال رابع وقد اشتد به العجب و أخذ منه النَّصَب: يا خير أحباب و يا صفوة الصحاب، كيف نصبر على من يرمينا بالمهازل، ويهدم آمالنا بالمعاول، لعمري لقد عاد ظننا فيهم خائبا، وأًًًضحت محاسبتهم واجبا، أجسامهم في تطوان أو حدائق كيليز، ولكن قلوبهم في بورصة لندن ومتاجر باريز... فأين تلك الأموال الطائلة، وكل المبالغ الهائلة، التي خصصها مجلس النواب، للإنفاق في هذا الباب، هل صُرِفتْ في الأسفار إلى الخارج، وركوب الطائرات والبوارج؟ أمْ لإبرام الصفقات الغامضة الأسباب، لذوي القربى والأهل والصحاب، بدون وضوح ولا شفافية، حيث الإشارات الخفيفة كافية، أم لاستفزاز المشاعر و الكرامة، بلا رقيب ولا صرامة؟ فأهانوا تاريخنا إهانة سافرة، وعاملوا مبدعينا معاملة ماكرة، لقد أجهزوا على فرحة الشعب إجهازا، ولم يستحْيوا ِلا حقيقة ولا مجازا، فلم ُينتجوا لا ذوقا رفيعا، ولا فنا بديعا، لعمرك قد أساؤوا صنيعا ! . فزاد عليه الخامس وقد ضاقت به الأحوال من كل هذه الأهوال : لقد أصاب إخوانُنا الأمازيغ حيث استشاطوا من الغضب، واحتجوا في المجلات و الخطب، لما رأوا مشروعا للوحدة وتعزيز الوئام، يكرّس الفُرقة و يؤجِّج الخصام ، فكيف تأملُ خيرا ممن يقرْصِن الأفكار و يستحوذ على الإبداع، كل أمانة لديه مآلها الضياع، فكم ذي فكرة تعهَّدها بالتهذيب، وأنضجها بالصبر و التشذيب، أعانه فريق عمل، قاسمه الطموح والأمل، فسهر طويل الليالي، ورفعها للمقام العالي، وناقشها في الديوان، بأمر من السلطان، حتى نالتْ أرقى الرعاية و حظيتْ بسامي العناية، فإذا ببطل القراصنة من مهمته يُقصيه، ويأتي بنَكِرة من ذويه، متجاهلا أمر ملك البلاد، متحديا ومكابرا في عناد! و إنْ سألته عن الأسباب، قال ذاك أحمق فَقََد الصواب ، ثم أصرَّ على البهتان وأمعن في الطغيان، فحرَّف أمَّ الوثائق، وأنكر المعلوم من الحقائق، وبدّد الجهود، وأخلف الوعود، إلى أن أجهض روح المبادرة، واتخذ تراث الأمة للمتاجرة، فما أسوأها مغامرة. أما لجنة البرامج ودقيق الشؤون فقد أُُفرغت من كل مضمون : جمعوها مرة واحدة أمام التلفزة، ثم فرقوها بلا نرفزة، ثم طُويت تلك الصفحة، كأنها مجرد مزحة. فعاد الأول للكلام و هو يغالب العبرة و يطلق الزفرة بعد الزفرة : من كان بالأمر يستفرد، و بالقرارات يستبد، لا حاجة له بلجنة وطنية ولا فرقة أكاديمية، ترهقه بالتقارير وباله مشغول بالدراهم والدنانير، ولْتذهب الحقوق إلى الجحيم، ولْيخسأ المنطق السليم، فمن يتصدى لهذا الغريم...