في شهر نونبر من عام 1919، صدر أول تحقيق يتضمن أجوبة الكتاب عن سؤال «لماذا تكتبون؟»، وذلك في المجلة الفرنسية «أدب»، ليستمر نشر باقي الأجوبة على امتداد ثلاثة أعداد. وإذا كان الملف قد شكل حدثا أدبيا إبان صدوره لدرجة وصلت معها مبيعات الأعداد إلى عشرة آلاف نسخة، مقابل معدل مبيعات لم يكن يتجاوز ثلاث ألاف نسخة، فإن المسؤولين عن إدارتها لم يكونوا سوى لويس أراغون، أندري بروتون وفيليب سوبو، وهم حينها رفاق لدرب الدادائية قبل تأسيس المدرسة السوريالية في 1924. لكن كيف تولدت هذه الفكرة العبقرية إعلاميا، التي تحولت إلى تقليد ترسخ عبر السنين في وسائل الإعلام ذات المنحى الثقافي والفني؟ حسب الشاعر فيليب سوبو، فقد كانت مجموعة من الكتاب، من ضمنهم صديقاه في إدارة المجلة، تلتقي باستمرار في مقهى «لوبوتي غريون» الباريسي للعب الورق واحتساء النبيذ والنقاش. الحانة تلك كانت ضيقة، وروادها لا يتغيرون ولا يغيرون مكان جلوسهم: «كانوا أشباحا جد طبيعيين لدرجة لم أكن أعيرهم معها أي اهتمام». لكن أحدهم، يفسر الشاعر، وهو رجل متقدم في السن، يضع ملابس سوداء باستمرار «كان دائم الإنصات لأحاديثنا والنظر إلينا، دون قول أي شيء». وحدث ذات يوم أن انتفض الكتاب ضد تلصص الزبون، فصاحوا في وجهه: - لماذا تسترق السمع دائما لنقاشاتنا وتحذق فينا بهذا الشكل؟ ببساطة، أجاب الرجل واضعي السؤال قائلا: - أنظر إليكم لأنني أريد أن أعرف لماذا تكتبون. ومنذ صدور عدد نونبر 1919 من «أدب» الفرنسية، تبدو التمارين من قبيل ملفها شيقة، بالإضافة إلى كونها لا تخلو من متعة بالنسبة للقارئ ومن مساءلة للذات بالنسبة للمبدع موضوع علامة الاستفهام. في هذه السلسلة التي ننشرها كل يوم جمعة، نقوم بتنويع حول السؤال ليصبح: «لماذا ترسمون؟»، وقد وجهناه لعدد من الفنانين التشكيليين من آفاق فنية مختلفة. لماذا ترسم؟ ! هو سؤال يطرح علينا مسألة الجدوى بشكل مباشر وتقريري، لكنه في الآن ذاته يجعلنا نعود إلى ذواتنا بشكل أكثر استعراضية، ومواجهة للحظة الآن كمناوشة ولفضاء ال «هنا» كمنحدر خطر وللفعل كحركة مصيرية. وهو من جهة أخرى، سؤال في صيغة لغوية، والمطلوب هو تمثل حالة ملمس ومرأى، ولهذا أتصور وجود لوحة بمادة ذات لون أسود، فأشرع في تقشيرها حيزا حيز ا، ربما أعثرفي الخلف على شكل أولون أو ما يحيل على الجواب أو على الهدف المضمر في صيغة السؤال هذه. لماذا ترسم؟! أولا، لأن الرسم بمثابة أفعال أخرى كالمشي والمشاهدة والكلام... ثانيا، وإضافة إلى الشق الأول من الجواب، فالرسم انتقال من مبدأ التعلم إلى مبدأ العادة؛ أرسم كما أتجول وأتحدث وأقيس الأحجام والأشكال والألوان... ثالثا، وإضافة إلى الشقين الأول والثاني، أرسم لأنه فعل قريب إلي، بل لأن الحركة فيه تخول لي تمرير واستقبال حيز هام من الوجود الصامت، أي ذاك الذي لا تنتبه إليه عامة الناس ولا تراه. أرسم مثلما أضبط تغيُّر درجة الحرارة وأنا أسير من مكان إلى المكان المجاور، مثلما أدرك عن بعد أن طول تلك الشجرة هو ضعف طول قامتي، مثلما أدرك أن استعارات العالم هي كذب صادق ويمكن التعويل عليها... رابعا، وإضافة إلى الأول والثاني والثالث، أرسم لأنه من الأفعال التي تشعرني بالنمو وأنا أواجه كائنات الضوء بكائنات الظل، كأن تشعر بالتوقف وأنت تمشي ، كأن تمتلئ بالصمت وأنت تتحدث وكأنك لا ترى إذ ترى. خامسا، وإضافة إلى كل ما سبق، لأنني في لحظة مَا، في مكان مَا وفي زمن مَا ، لا أستطيع فعل أي شيء آخر سوى أن أرسم. لماذا ترسم ؟! رغم ما تحمل هذه الصيغة الاستفهامية من طمأنينة الاختيار ومن هامش للحرية ، فإنها تطفح بإمكانات مناوئة من باب: يمكنك أن تفعل شيئا آخر، أو يمكنك أن لا ترسم بالمرة! من بعض هذه الاحتمالات، سأتتبع ردي على استفهام السؤال العويص : إن السؤال هذا يفضي رأسا إلى صيغة أشد عمقا وحدة وأكثر كارثية من باب: لماذا تبدع؟ نلاحظ أن وقع هذه الصيغة يُحدث صدعا لا يرممه إلا طرح السؤال في شعاع أعم: و لماذا لا تبدع أيها العالم؟ ثم، ماذا لو لم أرسم؟! مبدئيا، أرسم لأني في أمس الحاجة إلى تلوين بعض أفكاري لتسير بوجودها نحو الإثبات. ثم ،إنه بإمكاني فعل شيء آخر، أجل، أي شيء ، كالصمت الطويل ، كالإجرام الطويل، كاللعب الطويل... بإمكاني ألا أرسم وأحمل فقط أفكاري وأرحل بها من سجل إلى آخر أو من وطن إلى آخر، أو أتركها وديعة عند قطة الجيران، وهكذا لن يضر أبدا شيء شيئا. لماذا ترسم؟ تأتي الفكرة العروس من موضوع عام، على هيأة، في شكل وبلون ومادة وحجم.. يعم الصمت مسافة التعرف إلى جيناتي فيها ... يتم التوافق وتبدأ المجازفة. تتحرك اليد ذهابا وجيئة. سواء أن يكون القلم فحما أو رصاصا أو كلسا، تحت وصاية الفكرة المرصودة سلفا، أطوع جغرافيتها _ الجغرافيا التي تليق لسكن مفتوح الأجل. أرسم إذاً، لأسكن كائناتي الصاخبة في قفص الاتهام الأبدي، بل لأقف وجها لوجه إزاء المثبت في الإطار كمحاولة جواب مفترض على سؤال ما فتئ يزداد إلحاحا ومشاكسة. لكن، لماذا أرسم؟ ربما لأني أعرف ، ربما لأني أحب ذلك أو ربما لأني أستطيع هذا الأمر... أو ببساطة عارمة لأني أعشق اللعب.. كل شرط من هذه الشروط يكفي لتحقيق فعل الرسم، كما أن اجتماعها كاملة قد لا يكفي لأن أرسم.. المسالة في غاية التشابك. أجل، شخصيا لا أعتبر نفسي أرسم فقط بتوفر الشروط المذكورة، بل أرسم متى يتحقق الانسجام بين اليد وخطها، بين العين ولونها.. أرسم لأمنح الإقامة لبعض الأحلام في مملكة الضوء. لهذا، أستطيع الإجابة عن السؤال، بأني أرسم لأضيء بعض مناحي القلق . طبعا، هذا لا يعني العالم في شيء. بأني أرسم لئلا أعبر يتيما وهذا يعنيني بشكل وجودي...