جاك أتالي.. الرجل مؤسسة قائمة الذات.. بل إنه زخم من الكتب والمعارف، التي تتوالى عاما إثر آخر.. وهو يقدم نموذجا فريدا لرجل السياسة، الذي حين ينهي مهمته السياسية الرفيعة، لا يذهب إلى البحث عن مجد عابر، غير مجد الكتابة والتأمل.. إنه ينتصر بذلك للأبقى، فالسياسة عابرة، وهي مثل الميزان، قليلا ما ينتبه الراكب فيها، أنه حين تصعد كفة اليوم، فإن الكفة المقابلة النازلة، سوف تصعد ذات يوم وتنزل الكفة التي هو فيها راكب.. وما سيتبقى، لعقود طويلة، كتبه، التي هي أثر عنه وعن فكره واجتهاده. جاك آتالي، يستمد قوته من أنه كان من صناع القرار في فرنسا وأروبا عموما، لأكثر من 14 سنة، كونه ظل المستشار الخاص للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران. ورغم الزخم الهائل من الملفات التي شارك في صياغتها، والقرارات الهامة التي كان من مهندسيها، فإن ما يشكل قوته الكبرى إلى اليوم، هي كتبه الجدالية الكثيرة العدد ( إلى الحد الذي يجعل البعض، من حساده، لا يتردد في القول إن الرجل إنما يوقع كتبا يكتبها له آخرون!! أي ما يعرف في القاموس الفرنسي الخاص بالإصدارات ب «العبد»). الكتب الذي نذكر من بينها، على سبيل المثال فقط: «كارل ماركس، قاموس القرن 21، ذاكرة الساعة الرملية، اقتصاد الكارثة، اليهود العالم والمال، الحياة الأبدية، قانون التوحش، اليوم الأول بعدي، أبواب السماء، زوجة الكذاب، 1492، قصة المِلْكِية، العوالم الثلاث، معنى الأشياء، رحلة في قلب ثورة....»، ثم كتابه الشهادة: « كان فرانسوا ميتران».. جاك أتالي، الذي يهمني اليوم أكثر، هو ذاك الذي كتب كتابا هائلا إسمه «قصة صغيرة للمستقبل - Une breve Histoire de l›avenir ». فالرجل، من خلال ذلك الكتاب القيم، إنما يقدم مثالا على ما تستطيع السياسة التي تمارس بالجدية اللازمة مع الذات، وبأخلاق ( بذلك المعنى الذي ينتمي إليه رجل سياسة مغربي مثل المرحوم عبد الرحيم بوعبيد )، أن تلعبه من دور في تنوير رؤية السياسي، لتجعل منه كاتبا، مفكرا وشاهدا فعليا على عصره. بل، إن كتابه ذاك، هو من الكثافة المعرفية، ما يجعل قارئه يستشعر أنه أمام منارة طريق، تضيئ له مسارب التحولات التي راكمتها البشرية منذ أزلها البعيد، وكيف أن نظام اقتصاد السوق هو قديم قدم التدافع البشري فوق الأرض. مع ذلك الكتاب، الذي يستحق عاليا أن يكون مرجعا لكل الطلاب المغاربة في تخصصات الإقتصاد، والإقتصاد السياسي، وتاريخ الأفكار، والعلوم السياسية، نرافق فيه مسيرة انتقال القوة الإقتصادية من الشرق صوب الغرب، كي تنتهي اليوم في لوس أنجلس الأمريكية، بعد أن عبرت أثينا والبندقية وجنوة وأمستردام ولندن وبوسطن ونيويورك.. مع تسجيل معطى مقلق وحيد، هو أنه ظل يصدر عن رؤية مركزية، تعتبر الحركية الإقتصادية والسياسية العالمية، منذ البدء قرينة بدور حاسم لليهود. وهذا أمر فيه بعض من التجني ربما على الحقيقة التاريخية. جاك أتالي، من خلال كتابه القيم ذاك، إنما يقدم لنا جميعا درسا، أن الفكر حين لا تأكله السياسة، بالمعنى السياسوي الضيق للكلمة، إنما ينتج معرفة راقية محترمة.. وهذا لربما واحد من الدروس الكبيرة التي يجب أن يحسن قراءتها العديد من ساستنا المغاربة..