حينما ترك القتلة عمر بنجلون مضرجا في دمائه، كانت آلة التحكم تسعد بنجاحها في تأسيس المرجعية الجهادية التي تفكر المجتمع والنخب، وكل ما يفوق الإدراك المبسط والاختزالي. كان مطيع قد حقق الهدف وأزال الشوكة التي في الحلق، والصخرة التي في الطريق. حينما كان الشهيد عمر بنجلون يتحرك في كل اتجاه من أجل مغرب عادل، كان أيضا مدركا أن «كتيبة الإعدام» قد تمرنت (بشكل شامل) على تطبيق قناعاتها «الإجرامية، وأن التخطيط وصل إلى مداه في دهاليز السلطة قبل أن يصل إلى المجموعة «التنفيذية» التي كان يتزعمها النعماني. أليس هو القائل حين تم الإفراج عنه في غشت 1974: ««هذا الإفراج يعني أنني سأُغتال»!». أهو الحدس الدامي للمناضل؟ أهي القراءة في غيب الأقبية وطالع الصراع السياسي؟ هوذا وذاك، وأشياء أخرى إضافية.. كان الخطاب المتطرف، آنذاك، يشتغل لتأثيث عقول الأتباع والمريدين ب «إيديولوجيا التصفية» وتنقية «العقل المغربي- حسب ماذكره مطيع في حوار أجراه مع «الحياة اللندنية» عام 2000 - وهيكلته على أسس سليمة بعد أن استبد به ماكان سائدا من توجهات فكرية وعقدية وسلوكية اعتبرت حينئد مهددة لخصائص البلاد والعباد».. وحينما ترك القتلة عمر بنجلون مضرجا في دمائه، كانت آلة التحكم تسعد بنجاحها في تأسيس المرجعية الجهادية التي تفكر المجتمع والنخب، وكل ما يفوق الإدراك المبسط والاختزالي. كان مطيع قد حقق الهدف وأزال الشوكة التي في الحلق، والصخرة التي في الطريق. .. وتم القبض علي القاتل «سعد» الذي كشف، أثناء التحقيق، عن انتمائه «الحركي» لمجموعة دينية يرأسها عبد العزيز النعماني، ثم كشف عن أسماء أعضاء الخلية الآخرين، وهم «خزار- خشان- بن عمر- اوزوكلا حليم- مستقيم- العمري- بن بوشعيب- شوقي، إضافة الى النعماني وكندي واشعيب وجبير». «لم يكن هناك، أثناء تشييع الجثمان، من يتلقى التعازي ولا من يقدمها.. كانت هناك عائلته الصغرى التي انصهرت في عائلته الكبرى.. ليلة الخميس الجمعة كان بيت الشهيد يعج بمئات الوافدين وصباح الجمعة، وصل جثمان الشهيد، الذي كان قد نقل من مقر الفحص الطبي الشرعي الى منزله. وكان الفقيد عبد الرحيم بوعبيد وأعضاء المكتب السياسي، يتلقون طيلة الصباح تعازي ممثلي المنظمات الوطنية والتقدمية وأصدقاء الفقيد. حضر مراسيم التشييع مناضلون من مختلف الأقاليم. في الساعة الثانية عشرة زوالا تحرك الموكب الرهيب من زنقة «دي مولان» في اتجاه مسجد السنة بحي بولو حيث أقيمت صلاة الجمعة ثم صلاة الجنازة على روح الفقيد. ومن شارع «موديبوكيتا» قرب ثانوية مولاي عبد الله انطلقت الطلائع الاولى للمظاهرة الشعبية وكانوا يهتفون «يا عامل يا فلاح، عمر رمز الكفاح».. حينما وصلت بداية الموكب إلى مسجد السنة كانت السيارات مازالت تحاول الاستعداد للسير بباب منزل الشهيد وشغلت السيارات مسافة تزيد عن ثمانية كيلوميترات. وفي المقبرة، وقفت الجموع مشدوهة، ووقف عبد الرحيم بوعبيد خاطبا في الناس: «عندما امتدت تلك اليد الأثيمة طعنتك وأنت في معركة الشرف والكفاح والعمل.. واليوم أراد الله أن تنال منك يد أثيمة، سنعمل جهدنا ونبقى أوفياء لك حتى تظهر الحقيقة من وراء هذه المؤامرة التي نعرف أنها مدبرة». وما من شك أن الكثير من الحاضرين كانوا يدركون أن حجم المؤامرة أكبر من أناس بسطاء التكوين والعيش والأفق، وأنها بدأت بعيدا عن حي إفريقيا أو براكة سيدي عثمان أو سباتة، حيث كان بسطاء العقل والذمة يلتقون. ففي سنة 1974 التي كانت فيها دواليب السياسة وموازين القوى تهيئ لانفراج الحقل السياسي والاحتكام الى الرأي العام، هي السنة التي كانت فيها النعماني ومن ورائه مطيع وغيرهما يحثان السير ويسابقان الزمن لتكوين مجموعة تنفيذ العملية. وهناك عدة تصريحات لا تخلو من التباس يثير الأسئلة، ومن ذلك ما قاله خشان (المشارك في العملية) في تصريحه لدى الشرطة حيث جاء فيه «قال لنا النعماني بتصفية عمر، نظرا لأن حظوظه في الفوز بالانتخابات كبيرة»، وأضاف أيضا أنه «سلاح قد يرتد ضدنا وضد أفكارنا»، ونفس التأكيد يرد على لسان مستقيم (بائع خضر)، الوارد اسمه حيث قال: «لقد صرح النعماني بأنه تقررت تصفية عمر، وقال في تفسيره لذلك بأن عمر أصبح معتدلا (!) وإذا نجح في الانتخابات فإن منظمتنا سيقضى عليها (!). لقد استغل «مطيع بذكاء السياق العام المتسم بالعداء للإيديولوجيات الماركسية والماوية للبحث عن دعم وسند لجمعيته، وهكذا استفاد بمساعدة مادية ومعنوية من بعض الشخصيات السامية التي كانت تدعم نشاطاته»! وكان الجميع ينتظر من المحاكمة أن تكشف النقاب عن الملابسات الكاملة لجريمة الاغتيال، فالشهيد كان شخصية سياسية. ومن البديهيات أن اغتيال شخصية سياسية هو اغتيال سياسي، كما أن اعترافات منفذي الجريمة أكدت أن الاغتيال عملية مدبرة ومنظمة، حيث تعرض أفراد العصابة المنفذة الى تعبئة سيكولوجية و»دينية» ضد الفقيد. ونظمت لهم خطة تنفيذ العملية، وقاموا بتتبع الفقيد وإحصاء تحركاته عدة أيام قبل الجريمة.. فعلوا ذلك لأنهم تعرضوا لغسيل دماغ يشرعن الغلو اعتمادا على تقنيات التجييش بناء على حركية تأويلية منغلقة يتحكم فيها ضعاف التكوين الشرعي والاستعمال السياسي لوصول إلى تنظيم «أكبر من الحزب السياسي»، أي إلى الدولة الإسلامية التي يحكم فيها شرع الله. وانطلق في المرحلة التي تلي عنف اللغة أكثر شراسة بعدما وصل صدى «التكفير والهجرة» إلى المغرب..