لعلها أكثر من صدفة، في قراءة التاريخ الحديث وتحديداً في باب ما جاء في الثقافة الرياضية من باب الصدفة الماكرة أن »نتفرج« على حدثين يلبسان نفس الجبة: جبة كرة القدم العالمية في إطار نفس المعركة المؤدية بالفائز فيها إلى نهاية كأس العالم بجنوب افريقيا، وليس إلى نهاية الكون ونهاية الحياة... الأولى بين نخبتين أوربيتين حيث سرقت يد الفرنسي تيري هنري منها وفي واضحة النهار، وأمام أنظار العالمين كرة مفضوحة تسببت في تسجيل الهدف الذي أقصى دولة إيرلندة من هذه النهاية، والثانية بين نخبتين اسلاميتين أولا وعربيتين ثانياً وافريقيتين ثالثاً وفي نسيج الترتيب القاري... نخبتين شمال افريقيتين رابعاً... الواقعة الأولى انتهت بدون حرائق... بل بالعناق الذي بادر إليه الإريلنديون لتهنئة الفرنسيين على التأهل المسروق في ظاهره وباطنه، لكنه تأهيل رياضي مشفوع بقداسة القانون المتمثل في شخص الحكم الذي وجه صفيرته وأصبعه إلى دائرة نصف الملعب اعترافاً منه بسلامة الإصابة وشرعيتها، وآمراً الخصمين باستئناف اللعب. وبعد ذلك، لم ترفع شعارات العار ولم تسقط صومعة إيفيل في باريز خجلاً من التأهيل المسروق، ولم تنكس الاعلام في دبلين، ولم تنبعث أسر الفيكينغ لتعيث فساداً في الأرض وفي الممتلكات خارج الميدان، وفي نفوس المواطنين في فرنسا وإرلندا، ولم تتباك الأسر والمجتمع الرياضي الإيرلندي ولم تولد من رحم الأحقاد برامج فضائية وإذاعية أصبحت وبسرعة ضوئية خبيرة في التحليل الرياضي وفي تسويف الواقع بلهجة الحق المسلوب والثأر المطلوب. المقارنة ضرورية بين ما وقع في أم درمان وما وقع في باريس... ففي القارة الأوربية، تتسع يوماً عن يوم وتشاع الثقافة الأولمبية التي ابتدعها البارون دوكوبرتان، وهو، ومن قلب جامعة السوربون، يقرأ تاريخ الحضارات اليونانية والإغريقية في أزمنة الهدنة بعد الحروب الضارية بين الشعوب والقبائل البدائية، ويستلهم منه مقومات التسامح والتآخي والانتصار لروح المودة والاحترام في تكريس الثلاثية الأزلية تمجيداً للأقوى والأسرع والقادر على القفز في مستويات عليا. ومن هذا التراث الذي خلده الفلاسفة وعباقرة زمانهم من أجل كرامة الإنسان وذلك بنبذ الكراهية بحشد القبائل والفيالق المكتساة بأغصان الزيتون والغار والريحان ونوار الدفلى متعدد الألوان، والتي كانت تتنافس في صياغة الأكاليل لوضعها على رؤوس الفائزين الذين كتبوا تاريخ الحضارات بعرق ومداد الأخلاق والنبل الذي يُجْبِرُ الإنسان: 1 على القبول بالهزيمة المستحقة طبقاً للقوانين التي تسود الجميع ولا يعلو عليها أي تشنج فئوي أو سلطوي، هاته الهزيمة التي تكشف مناحي الضعف عند المنهزم وتجبره على مراجعة الذات وقراءتها بنقد ذاتي موضوعي لتصحيح الأعطاب وإزالة المعيقات وهو قبول يتجسد في مصافحة المنهزم وتهدئة عواطفه وكبت الإحباط. 2 القبول بالتعادل تحت سترة القانون وهو قبول يتجسد بدوره في معانقة الخصم بطعم التهنئة على اقتسام النتيجة. 3 القبول بالفوز مع عدم الشعور المبالغ فيه بالقوة والعجرفة والهنجعية، ومع استحضار الحالات النفسية لدى الخصم المنهزم والمبادرة الى عناقه ومواساته متمنياً له مساراً أحسن. فإذا ما كان الفريقان الأوربيان قد أكدا انتصارهما للتعاليم الحضارية الأولمبية أولا كلاعبين في الميدان، وثانياً كأدوات في آليات إنسانية تمارس الرياضة رغم ما يغلفها عولمياً من تطلعات احترافية مادية بحت كإبداع إنساني لا كتنافس عدائي حربي تنحسر دونه القيم الأولمبية والأخلاق وتسترخص الأرواح والأخوة وروح التسامح... إذا ما كان الأمر كذلك عند هؤلاء، فلأنهم تشبعوا به منذ نعومة أظافرهم في الصف بالروض والحضانة والمدرسة الابتدائية والثانوية والكلية والمعاهد ومنتديات الشباب وشبيبة الأحزاب، ولم يتشربوا وهم في طور البناء الآدمي صيغ العنف وألوانه القبيحة وثقافة الإقصاء والاستقواء والشعور بالعظمة وباستحالة الهزيمة ودوام الفوز والتألق ودونهما الموت... إن ما حدث في القاهرة وفي أم درمان لدليل على غياب التخليق وعلى المضي عميقاً في فبركة جيل خبيث من شباب اليوم، رجال الغد (الله يستر) وهي فبركة مقصودة ومهيكلة، كما يشهد على ذلك ترويج سيديات حمولتها البغض وصيغ العنف وتسفيه الذات قبل تسفيه الآخر واحتقاره وتبخيسه، وذلك تحت غطاء الشعارات و »حب الفريق«. فلا عجب أن تغيب المدرسة في تكريس الثقافة الأولمبية وغرس مبادئها في المجتمع، انطلاقاً من المدرسة والبيت والنادي، وأن يحل محلها تكريس البغضاء والفحشاء اللذين، ونظراً لغلوهما استبدا، وبكل أسف، بالجالسين على كراسي الحكم وفي واجهة الشاشات التلفزية وعلى صدور الصحف، بل وفي إعلانات صاخبة طويلة وعريضة في شوارع المدن المصرية والجزائرية. لكن الأقبح أن ينفتح هذا الغباء المفبرك والمقصود والمبرمج على نوارة المجتمع من فنانين وإعلاميين أكدوا أنهم في غيبوبة حضارية لا تليق بمن عليه أن يواجه التحديات الحقيقية الظاهرة والباطنة واليومية في السياسة الوطنية والعربية... في الحقوق، في الاقتصاد والشؤون الاجتماعية والثقافية. الآن، والحرب تضع أوزارها ظاهرياً، علينا أن نتحسس الأعطاب المتمثلة في استفحال جراثيم العداء بين الشعبين المصري والجزائري...