عودة جريئة إلى السنوات الماضية من العمر باريس بوعلام غبشي سجل كتاب "حياتي السيئة" لصاحبه وزير الثقافة الفرنسي الحالي فريدريك ميتران نجاحا مهما من حيث المبيعات إثر صدوره سنة 2005،حيث أفادت الأرقام أنها بلغت 190 ألف نسخة،حينها.وبعد أربع سنوات من نزوله إلى المكتبات،أثيرت حوله،مؤخرا،ضجة إعلامية صاخبة،أو ما شابه البوليميك في لغة السياسيين،بسبب خرجة مارين لوبان،نجلة زعيم اليمين المتطرف على بلاطو قناة تلفزية،اتهمته فيها على أنه يقوم "بتمجيد السياحة الجنسية"،و الأمر نفسه كان بالنسبة للناطق الرسمي باسم الحزب الاشتراكي "بونوا أمو" الذي "صدم" لما ورد في جزء من كتاب الوزير. ارتفعت أصوات اليمين المتطرف مطالبة برأسه من داخل حكومة فرانسوا فيو مطالبة الوزير الأول والر ئيس ساركوزي بإقالته،فيما كان "رفاق" بنوا أمو من صقور المعارضة الإشتراكية حذرين في مقارباتهم "للحياة السيئة" لفرديريك ميتران،و لم يتحدثوا بنفس نبرة لسان حزبهم "أمو".بيير موسكوفيسي،وزير الشؤون الأوروبية السابق على عهد حكومة جوسبان،رفض "عقد محاكمة لميتران على كتابات الماضي"،ولو أن "رفيقه في الحزب جون بول إيشون رئيس المجلس الجهوي لإيل دوفرانس تكلم بأكثر وضوح منه قائلا "هل من اللائق أن يكون لنا وزير يتباهى بكونه قام بالسياحة الجنسية". فريردريك ميتران رجل ثقافة بامتياز وقبل أن نتوقف عند محتويات "حياتي السيئة"،نتعرف على من استهوته في فترة من فترات العمر هذه "الحياة" قبل أن ينعتها "بالقبيحة".فرديريك ميتران رجل ثقافة بامتياز.وماضيه في السينما و التلفزة و التأليف و تسييره لمؤسسات و مواسم ثقافية كبرى،يشهد له بذلك.و عكس العديد من الكتاب الكبار الذين نهلوا من الحرمان و البداوة،وظلوا على الهامش مجتمعيا حتى تفجرت مواهبهم في الكتابة و التأليف.فالمؤلف يعني اسمه العائلي الشيء الكثير،فالرئيس السابق للجمهورية الفرنسية فرانسوا ميتران ما هو إلا عمه. ولد فريدريك ميتران في غشت من سنة 1947،والده روبير ميتران،مهندس.شارك وعمره لا يتجاوز 12 سنة في فيلم "فورتينا"،وهو خريج معهد الدراسات السياسية بباريس سنة 1968.واشتغل في التعليم بعد تخرجه،لينتقل إلى إدارة العديد من قاعات السينما بعد ذلك.وفي سنة 1981 أخرج أول شريط له "رسائل حب بالصومال"،وفي السنة الموالية يصدر رواية مستوحاة من نفس الفيلم وبنفس العنوان،كما دخل عالم الإعلام في العام ذاته بإنتاجه وتنشيطه لبرنامج "نجوم و نجوم" لتتوالى أعمال التلفزيونية.وفي سنة1999 شغل المفوض العام لموسم "سنة المغرب" بفرنسا،زيادة على مسؤولياته السابقة على مؤسسات ثقافية آخرها تعيينه من قبل ساركوزي على رأس أكاديمية فرنسا بروما،قبل أن يمنحه منصب وزير الثقافة و الاتصال في 23 يونيو الماضي. عاش فريديريك ميتران مرحلة طفولة بتلاوينها التي لم تكن في عمومها خالية من الصعوبات رغم أن أسرته كانت محسوبة على الطبقات الفرنسية الميسورة.طلاق والديه أثر في بناء شخصيته،و إن كان محظوظا،كما يروي ذلك في كتابه،باعتبار أن أمه لم ترتبط بعد طلاقها من أبيه إلا مع الرجال الذين رأت فيهم يحسنون معاملة ابنائها ويوفرون لهم الحماية.ويقر على أن زوجي والدته كانا جد لطفاء معه،و روى كيف أنه انتقل مع أمه رفقه زوجها الأول إلى المغرب،وقضى بين أحضان الاثنين مرحلة من الطفولة تعرف فيها على الآخر بلغته،بطقوسه،و بأساليبه في الحياة المغايرة تماما لما عهد عليه الحياة الأوروبية. المغرب...البلد الحاضر في السنين الأولى من العمر زاوج في كتابه "الحياة السيئة" بين السيرة الذاتية و الرواية،ما أفرز عملا أدبيا اعترف النقاد الفرنسيون بقيمته الأدبية،بغض الطرف عن الاختلافات في الرأي حول مضامين جزء منه،التي حضرها فيها السياسي،وخنق معه صوت الناقد المتمرس،الذي له سلطته في تحديد ما للعمل الأدبي أو الفكري من جدوى في الإطلاع عليه و الدخول إلى عوالمه.صفة السياسي التي أصبح يحملها فريديريك ميتران هي التي جرت عليه كل الهجمات التي تعرض إليها،كما عبر الناطق الرسمي للحزب الاشتراكي،و حمته من هذه الهجمات من ذي قبل عباءته ككاتب له الصلاحية في إطلاق العنان لخياله في اختراق الطابوهات. يعود وزير الثقافة الفرنسي إلى طفولته بريشة كاتب له حنكته في الكتابة الأدبية.وينبش بذاكرة حية في السنين الأولى من العمر،كيف كان فرديريك الطفل يحاول أن يثبت ذاته بين أقرانه ويصارع حتى يجد صديق له يحتمي من خلفه من نزق من هم في مثل سنه.يصف كل منهم بمهارة أديب لايستثني التفاصيل،بل يعطيها بريقها في عالمه الإبداعي،دون أن تلمس للرتابة أي أثر في وصفه لما كان يجري من حوله في مرحلة من مراحل العمر.و لم يمر على أصدقاء طفولته دون أن يشخص نوعية العلاقات التي كانت تجمعه و إياهم. تعرف فريدريك ميتران في سن مبكرة على المغرب،عندما سافر رفقة أمه وزوجها بمناسبة عطلة عيد الصفح،اكتشف خلالها علاقات إنسانية مع أناس من ثقافة أخرى،والطقوس المحيطة ببيئتهم الحياتية،والفضل في ذلك يعود إلى أحد أجراء الأسرة من المغاربة الذي كان يأخده معه إلى الأحياء الشعبية و الأسواق،لأن الأسر الفرنسية،يشير ميتران في كتابه،مع مطلع الاستقلال كانت منغلقة على نفسها،ولا تتعامل إلا مع الأسر المغربية البورجوازية القريبة من القصر."نذهب إلى الشواطئ التي كانت عليها مراقبة مشددة،ونحذر من أن نصاب بضربة شمس حتى لا نغدو مثلهم،الآخرين"،يسرد الكاتب نظرة الاستعلاء للمغاربة التي احتوت عيون العائلات الاستعمارية إبان وجودها بالمغرب. الغياب الكلي لما سماه الكاتب "للعرب" في إشارة منه للمغاربة من أمام أنظار الأسر الفرنسية،كانت تعوض بحضورهم في النقاشات التي كانت تدور حولهم على الموائد.اسم المغاربة كان حاضرا باستمرار في أحاديثهم.أسر تجرعت بمرارة أنها تجرد من امتيازاتها إبان فترة الاستعمار،لتصبح مهددة في مستقبلها على أرض أضحت "مستقلة" اسمها المغرب.ويستمر ميتران في وصفه لوضعية المدينة المغربية وقتها،"مقاهي حيث لا تجد أثرا للنساء"،"أطفال يلعبون الكرة على أراضي شاسعة ومغبرة"،"ما سحو الأحذية".... الجزء الساخن الذي أشعل فتيل الجدل ويرجع الكاتب بالقارئ إلى مرحلة أخرى من فترة طفولته حيث تربى على أيادي خدم،بصمت امرأتان،أشرفتا على جزء من تربيته في غياب الأم،على ذاكرة طفولته.نعت إحداهما بالخادمة اللطيفة التي كانت تحسن التعامل معه،و الثانية بالخادمة الشمطاء التي لا تتردد في تأديبه ضربا إن أرادت أن تقوم اعوجاجا أو زيغا لاحظته على سلوكه و تصرفاته،وكأنه يفسر أن الطفولة يمكن أن تكون صعبة وإن كان قدر الطفل أن يولد في أسرة كريمة لا تعرف للكدح و المعاناة الاجتماعية معنى،وسعادة هذا الكائن الآدمي الصغير لا تخلق من ظروف العيش الرغيد،و إنما من شروط حياتية أخرى. ويفهم من جزء من الكتاب أنه سعى لأن يمرر رسالة للقارئ كونه له علاقة خاصة بالأطفال،ويعطف على المحتاجين منهم ومن هم في وضعيات تفسد عليهم انتشاءات هذه المرحلة الجميلة من العمر.ويحكي المؤلف أنه تعلق بطفل أجنبي عند زيارة لدولة أجنبية،وعمل كل ما في وسعه حتى جلبه معه إلى باريس و تبناه،و وقف عند ما يمكن أن يتعرض له الأطفال من استغلال بكل تجلياته في دولة كالطايلاند مثلا.ويسرد واقعة عندما كان يتجول على متن سيارة مع هذا الطفل نفسه،وتدخلت إثرها امرأة ناهرة الطفل لأن يعود لوالديه،و هي تصرخ في وجه الكاتب بأن يدعه لحاله،معتقدة أن في الأمر استغلال جنسي. والنقطة التي أفاضت الكأس في كتابه،وأثارت جدلا واسعا تزعمته مارين لوبان،مقطع يشير إلى شذوذه الجنسي و استعراضه بالملموس إلى علاقة جنسية مع "ولد"،فهو ينفي أن يكون مارس الجنس مع طفل،وإنما كان يقصد طلاب في مقتبل العمر،حسب المدافعين عنه،في حين اعتبرت نجلة زعيم اليمين المتطرف أن المسألة فيها تمجيد للسياحة الجنسية،بل أنه اتهم على أنه "بيدوفيل" أي من هواة الجنس على القاصرين،وهو أمر لا يتساهل معه القانون الفرنسي.وتناول في هذا الجزء كيف دخل إلى محل للدعارة الرجالية،واختار "رفيقه" الذي اختلى به ليلبي غرائزه الشاذة.