أستعير الشطر الأول من هذا العنوان من الصديق والزميل سليمان بوصوفة الذي سبق له استعماله في مقال جميل عن تداعيات المونديال الذي سحر قلوب وعقول العالم حتى أن أحدهم بدأ يسأل كيف سيعيش الأيام الأولى التي تعقب نهاية العرس العالمي. كل العالم يعيش حمى المونديال، حتى أولئك الذين ليسوا من عَبَدة الكرة المستديرة الساحرة. وكذلك الشعوب التي غابت فرقها القومية عن المنافسة (من ليس له فريق يشجع البرازيل!). أنظروا كيف تجندت شرطة الأخلاق والعبادة في السعودية لمنح المشاهدين المتحلقين حول شاشات عملاقة بالمدن، سجادات ومصاحف مجانية لتبقيهم قريبين من الله في ذروة تخديرة المونديال. وانظروا كيف تقاتل الناس في كولومبيا بسبب الاختلاف على توجيه شاشة عملاقة في إحدى الساحات العامة. وانظروا كيف تخلف الناس عن أعمالهم في تونس والمغرب وتفرغوا لمشاهدة مباريات فريق الجزائر. وانظروا كيف امتنعت الحكومة البريطانية عن فرض ضرائب إضافية (في الميزانية الجديدة) على البيرة والكحول والسجائر حتى لا يتأثر الاستهلاك في ذروة المونديال (كانت أحلام الفريق الانكليزي بالفوز بالكأس ما تزال قائمة). وانظروا وانظروا.. 2 يقال، والعهدة على الرواة، ان الناس في كوريا الشمالية لا يعرفون الى اليوم أن فريقهم القومي سُحق على أيدي البرازيل والبرتغال وكوت ديفوار. ادعى أحد أصدقائي أنه شاهد تلفزيون كوريا الشمالية فوجد أن المذيعين والعاملين به يقولون للناس إن فريقهم تفوق على البرازيل وتعادل مع البرتغال وكوت ديفوار. وعن عودته مبكرا للبلاد، قال المذيعون، حسب صديقي، ان كأس العالم تنتهي بعد ثلاث مباريات، وان كوريا الشمالية هي التي فازت بالكأس لكن الفريق اختار، كرما وتنازلا، أن يتركها في جنوب افريقيا عربون محبة وتمهيدا لتعزيز التعاون النووي القادم. وقد شاهدت صورا تلفزيونية عن عودة فريق كوريا الشمالية الى بلاده. لا أذكر مصدرها لكن أتوقع أن تكون من التلفزيون الرسمي الذي ربما تعمد بث تلك الصور لكي يرى العالم البعثة الكروية تصل بسلام وتُستقبل استقبالا لائقا، عكس التوقعات التي ذهبت نحو أن الرئيس كيم جونغ إل سيُنفذ في اللاعبين حكم الإعدام بيده، كما تكهن بعض المغرضين في الغرب المعادي لهذا البلد. هذا الغرب ذاته الذي نشر إشاعة أن بعض لاعبي كوريا الشمالية اختفوا وطلبوا اللجوء السياسي في جنوب افريقيا. ولو طال المقام بالفريق الكوري الشمالي لجاء من يقول لنا إن لاعبيه صنعوا قنبلة نووية في أوقات استراحتهم بين مباراة وأخرى. 3 إذا ما صدقت نكتة صديقي حول النتائج المقلوبة في التلفزيون الرسمي لكوريا الشمالية، فلنقل إنه تعلم من التلفزيون الجزائري، أو ان أحدهما نقل عن الآخر. رغم الأداء المتواضع للفريق الجزائري المتواضع في المونديال (وهو أمر منطقي وكان منتظرا جدا إلا من أعمى بصر وبصيرة من فريق يشبه الجزائر والجزائريين)، نجح التلفزيون الجزائري وكثير من الصحف الصفراء والبيضاء في تحويل الانهزام مع سلوفينيا الى تعادل والتعادل مع انكلترا الى انتصار والهزيمة مع أمريكا الى انتصار. إذا كانت الجزائر هكذا وانتصرت، فغانا فتحت مكة، واسبانيا أعادت احتلال أمريكا الجنوبية والأورغواي فتحت أوروبا! بهذه الحسابات، حصد الفريق الجزائري سبع نقاط واحتل الترتيب الأول في مجموعته، لكنه فضّل الانسحاب تاركا المجال للآخرين لأنه أصلا ذهب لكي يستخلص الدروس استعدادا لمونديال 2014، ولم يذهب للفوز بكأس العالم.. هذه تركها للضعفاء والهواة مثل ألمانيا والأرجنتين والبرازيل. 4 أعتبر نفسي من المحظوظين لأنني لا أفكر مجرد التفكير في مشاهدة مباريات المونديال في قنوات تلفزة عربية. الحمد لله بكرة وأصيلا وربّ لا تحجني الى تلفزيونات عربية في 'المونديالات' المقبلة إذا أطلت عمري. السبب؟ صياح المذيعين الذي يخرج من المصارين فيصيبك أنت بمغص وصداع وقرف بدل أن يصيب صاحبه. أن يُفرض عليك ذلك الصياح، في حد ذاته ابتلاء. والمشكلة أنهم يتنافسون في الصراخ غير آبهين بمن يستمع، كأنه سباق الأصوات المزعجة. أتساءل هل توقف أحدهم مرة مع نفسه وسألها هل هذه الطريقة في التعليق سليمة ولائقة. سؤال: من الأحمق الذي سنّ سُنة ذلك الصياح المزعج في مباريات الكرة؟ أعرف عموما أنها طريقة معلقي أمريكا اللاتينية، انتقلت الى معلقي الخليج ثم تعممت مع حظنا الأسود. قبل أيام شاهدت في قناة 'آرتي' الفرنسية تحقيقا عن معلقي المستقبل في الأرجنتين وكيف يخضعون لتمارين رفع الأصوات ومد الصراخ عبر الحبال الصوتية حتى تنقطع الأنفاس وكأنها جلسة تعذيب. كان لدي أمل أن تنقرض هذه الطريقة في التعليق، لكن ما أن شاهدت ذلك التحقيق حتى ضربت أخماسا في أسداس وقلت أن بشّر المؤمنين الصابرين أن المستقبل مشرق أمام هذا النوع من التعليق الرياضي المسيء للصحة والذوق العام والبيئة. سؤال آخر: أليس بيننا عاقل ينبه هؤلاء المعلقين بالتلفزيونات العربية الى قبح ما يصرخون؟ وأن هذا التقليد الأعمى عيب؟ أستطيع أن أفتخر بأنني محظوظ لأنني أشاهد المباريات (كل المباريات من دون أي دفع إضافي وبدون ابتزاز مالي أو أخلاقي) في قناتين بريطانيتين، الأولى 'بي بي سي' العريقة والثانية 'آي تي في' التجارية، مع معلقين محترفين ومحللين بارعين تشعر بأنهم ينتشلونك بهدوء من أميتك الكروية. معهم تكشف أسرار انهزام هذا الفريق وفوز ذاك وقوة ذلك وضعف الآخر. كيف لا وهم يعرفون عن الفريق الجزائري أكثر مما يعرف معلقون جزائريون؟ 5 بعض العرب يثيرون فعلا الشفقة! تأهلت الجزائر للمونديال فصدّقوا انها تمثلهم جميعا، أو هكذا قال باعة الأوهام منهم والحالمون بانتصار مهما كان تافها. وأدار الحكم السعودي خليل الغامدي مباراة في المونديال فقالوا إنه شرّف العرب وعلا شأنهم. عجيب هذا التفكير. كيف يمثل الفريق الجزائري العرب و20 لاعبا من 23 مولودون في فرنسا ويعيشون في أوروبا؟ وكيف يمثل الحكم السعودي سكان الأطلس أو سوس في المغرب، أو البربر في الأوراس الجزائري أو قبائل التبو في صحراء ليبيا؟ حتى إذا افترضنا جدلا أن هذا التمثيل فعلا موجود وجدير بالتنويه، فهو كعدمه من وجهة نظر الفيفا، واستطرادا لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يعلي أو يعزز مكانة العرب عند الفيفا وفي المنافسات الكروية العالمية. أحاول أن أتخيل لاعبا جزائريا اسمه كارل مجاني ورفيقه حسن يبدا والآخرين يمثلون.. عبد الملك الحوثي! الفيفا يعترف بالدول والقارات والفضاءات فقط، وقوانينه تمنع التعامل مع التكتلات القائمة على العرق والجنس والديانات والعقائد. فلو سمح بذلك وسايرنا منطق بعض الأعراب، سنتباهى بأن أفغانستان وماليزيا وجزر المولديف شجعت الفريق الجزائري باعتباره ممثل المسلمين الوحيد في المونديال. وبهذه الحسابات هندوراس تكون قد مثلت دريد لحام (باعتبار أن الالاف من الشام والهلال الخصيب هاجروا الى أمريكا اللاتينية قبل 200 سنة وأكثر)، واسبانيا مثلتنا باعتبار لاعبيها أحفاد طارق ابن زياد، والأخير سافر من عندنا بشمال افريقيا واستوطن الأندلس). يا ناس، نعرف أننا جميعا قضينا عقودا من أعمارنا نحصي الانكسارات وخيبات الأمل، وما أحوجنا الى أبطال وانتصارات حتى لو كانت وهمية، لكن الوصول الى حد التشدق بأية قشة، يثير السخرية. الفريق الجزائري بالكاد يمثل نفسه والجزائر. وبقليل من 'التنازل' لنقل إنه مثّل شمال افريقيا. والحكم السعودي الغامدي لم يمثل إلا نفسه وزملاءه السعوديين وبلده. لم يمثل حتى جيرانه من دول الخليج. فحتى لو تألق فوق التألق، فهو سينفع نفسه والتحكيم السعودي، ولن يخدم التحكيم العربي قيد أنملة لأن في الفيفا سيقال عنه إنه سعودي من القارة الآسيوية، لا غير. 6 لو تصرف كل رئيس دولة مثل رئيس نيجيريا وعاقب فريق بلاده على الأداء السيىء في المونديال، فماذا سيفعل نيكولا ساركوزي بفريقه الذي دخل المونديال بفضيحة وخرج منه بفضيحة؟ وماذا سيفعل الرئيس الإيطالي بفريقه الذي استعجل الخروج؟ وماذا ستفعل ملكتي أليزابيث النجاشية الثانية وقد خرج الفريق الانكليزي مسرعا وكأنه استعجل العودة الى البيت؟ كل مونديال وأنتم بخير. صحافي بجريدة القدس العربي