بقلم المخرجة الجورجية نينو كيرتازي (*) ترجمة وتقديم: علي كامل الفيلم من إنتاج شبكة التلفزيون الفرنسي- الألماني ARTE مدته: 86 دقيقة سنة الأنتاج: 2004 "الموت هو ، أولاً وقبل كل شيء، صورة، وسيظل صورة أبداً" ج. باشلار لايزال الناس في جورجيا، وفقاً لأعرافهم القديمة، يحيون مع موتاهم جنباً إلى جنب. فمراسيمهم في حضرة الميت هي طقوس مرتجلة، ومقابرهم هي أشبه بأماكن لقاءات العشاق، وفي مقدمهم يشعر الموتى بالحرية والطمأنينة و ولايعوزهم شيء. إنهم الأحياء وهم يقحمون أعزاءهم الموتى في حياتهم العائلية. يؤمّنون لهم الحماية من المجهول ويأملون منهم في نفس الوقت الشيء ذاته. يتحدثون إليهم ويلتمسون العزاء منهم!. سكنة القرى الجيورجية يرعون أرواح عوائل أولئك الموتى ويشدون من أزرهم وذلك عبر مشاركتهم تلك الشعائر كي لايشعرون بالوحدة. الهاتف المحمول وجهاز الكمبيوتر مثلاً أصبحت أشياء مألوفة وجزء من المشهد، كما الجنازة ذاتها التي تعتبر أكثر الأشياء ألفة في الحياة!. الصلات بين الميت والحي هنا مصانة في القول والفعل، وهي متواصلة، مبجّلة، وراسخة. وحين يبلغ الحدث ذروته، تتماهى الشعائر بالعروض الأستعراضية القديمة، حيث المرح المفعم بالحيوية والحماسة وحيث كل شيء مغرق في مغالاته. إنه مشهد نادر وإستثنائي. صور فوتوغرافية كبيرة الحجم تتوسط واجهات القبور على نحو متزايد. المداخل وهي ملأى بالمتنافسين على تلاوة الكلمات. مفردات مفعمة بالأوصاف الجياشة وهي تشي ببعث الموتى وعودتهم إلى الأرض ثانية، يتلوه نواح منفرد وارتجالات تكاد تحاكي الندب المشهدي. ينبغي على أسرة المتوفى في هذا الوضع المحافظة على مثل التوتر المتصاعد، وفوق كل شيء، على هذه الدهشة. كل شيء سيتم على مرأى ومسمع الجميع. ولا يمكنك مطلقاً معرفة ما إذا كان ما تراه يعبّر عن الألم الداخلي أو هو مجرد إرتجال مسرحي محض. الفيلم الوثائقي "أخبروا أصدقائي إني مُتّ" هو بأي حال من الأحوال، فيلم ألق رغم الحزن والكآبة والحداد التي تسود أجوائه. فيلم مُتخيّل، مثل حكاية سوريالية، يحكي لنا قصة التعايش الغرائبي بين عالمين: أحدهما واقعي والآخر مجازي، عالم الأحياء وعالم الأموات. ع.ك (علينا أن نغدق الثناء على مخيلة الواقع)** نينو كيرتازي يقول الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرداييف: "حين نواجه الحياة فنحن إنما نواجه لغزاً. لغز نسعى لفهمه، إلا إن سره وغموضه يعتليان إلى السطح". من هنا يمكننا البدء في الحديث عن الفيلم الوثائقي.الذي يولد من سؤال، فكرة، رؤية، مكان، أو حتى وجه بشري. ورغم انه يستكشف الواقع المواجه للكاميرا، إلا إنه يذهب أبعد من ذلك بكثير. إنه لا يحكي عما يرى فحسب، إنما يصف أيضاً ما ليس بوسعنا رؤيته بشكل مباشر، فهو يتجلى في الزمان ويتحرك باتجاه المكان، وغالباً ما يتخطى النقطة التي يلتقي فيها الواقع بالكوني. وجهة النظر الذاتية، الكفيلة وحدها في استكشاف أعماق الواقع أمام الكاميرا، هي فقط بوسعها أن تحقق ذلك الكوني. الأفلام الوثائقية تتحدث عن لاشيء وعن كل شيء في الوقت ذاته. فهي حين تتحدث عن لاشي فإنها تتحدث عّنا، عن العالم، عن الكون، عن اللغز الكبير للحياة والذي هو محور الفلسفة الأهم، لأن الأفلام الوثائقية هي وجهة نظر عن العالم. وبما إن لغز العالم معقد للغاية ومن الصعب وصفه، فقد تم في البداية إنتاج فيلم واحد حول هذا الموضوع ثم تلاه فيلم آخر من أجل مواصلة سير عجلة البحث. الأسئلة تتوالد وتتكاثر فيما نحن نتحرك نحو الأمام من خلال النقائض. قبل سنوات عدّة مضت قررّت أن أبحث ثيمة "الموت" في فيلم وثائقي يبقى في إطار مفهوم الموت نفسه، لكن في الإمكان تحويله إلى نشيد وثناء للحياة. لقد كانت رغبتي تتمحور في ربط أواصر الطرفين، الموت والحياة معاً. كنت أحلم بفيلم مفعم بالطاقة والقوة والحيوية تجعلني قادرة في الحديث عن الحياة عبر الموت. قيل أن جوهان سابستيان باخ حين علم بموت أحد أبناءه سقط على ركبتيه مبتهلاً إلى الله قائلاً:"ربي لا تدعني أفقد متعة الحياة". إن البشرية في جمالها وبهائها وفي مواطن ضعفها أيضاً وهي تواجه لغز الموت حيث الحزن يصبح إحتفالاً بالحياة، هو شيء يفتنني حقاً. مشروع الفيلم يرتكز بشكل جوهري على ذكريات مستلة من طفولتي: عن صور بقيت مخزونة في ذاكرتي لجنازات شهدتها في جورجيا، هناك حيث ولدتُ، وبحسب عادات وأعراف بعض مناطق محددة، يحتفظ الأحياء بموتاهم الأعزاء بروابط متينة تجعلهم يواصلون الحياة كما لو أنهم مازالوا أحياْء. عنوان الفيلم مصدره نقش على ضريح عثرت عليه في مقبرة، خلال رحلة بحثي عن موقع للتصوير في غرب جورجيا. "صاحب" النقش، أي المتوفي، ُمّثل بصورة فوتوغرافية بالحجم الطبيعي وضعت على ضريحه. كان صدره مغطى بالأوسمة إعترافاً له بخدماته الجليلة للدولة والتي يفتخر بها بشكل واضح. كان النقش يتضمن كلمات على لسانه يدعو فيها جميع معارفه أن يجلسوا ويشربوا قربه. كما يطلب منهم أن يأتوا لرؤيته دائماً وأن ينشدوا له أغانيه المفضلة كي لا يشعر بالضجر وحيداً في قبره، مجدداً رغبته بمواصلة حياته. كان ثمة شيء سوريالي حول هذا الواقع الذي رأيته. شيء قوي لا يصّدق بشأن هذه الطريقة في مواجهة الموت والابتهاج بالحياة، التي انبثقت جميعها من خلال تلك النقوش الغرائبية في المقبرة. تَصوّر المكان وهو أشبه بغاليري مفتوح في الهواء الطلق، ببورتريهات بالحجم الطبيعي لموتى يبتسمون, ويبعثون بدعواتهم إلى الأصدقاء والأقرباء للمجىء والجلوس قربه على كراس ومصاطب خصصت للزوار تحيط بالقبر. ولعل الأكثر دهشة أن أحد القبور كان يحتوي على جهاز تلفزيون جلبته عائلة المتوفي ليتمكنوا من أن يتجمعوا حول عزيزهم ويشاهدوا لعبة كرة القدم "معاً"!. حين بدأت التحضير للفيلم أخبرت مساعدي عما خططت له للعمل فتطلع بي كما لو أنني مجنونة. قائلاً:"وماذا بشأن فريق العمل؟". الشيء العسير بشأن فيلم كهذا هو الاستحالة المطلقة لتحضير أي شيء. كنا نجهل كيفية العثور على شخصيتنا الرئيسة، والذي ينبغي أن يكون المتوفي نفسه، أو كيفية الحصول على إذن من العائلة لنصّور ما أحسسنا به بشكل جوهري. التحضير الطويل للجنازة يكاد يتماهى كثيراً مع التحضيرات لحفلة زفاف. مراسم عزاء تذكرّ بمسرح الكوميديا دي لارتي، حيث النواح المنفرد والذي عادة ما يكون مباغتاً في عروضهم والذي يمكن أن يذهب بعيداً جداً حيث ترتجل وتوقظ ذكريات وقصص مضحكة حول حياة المتوفي، وحيث الضحك، على سبيل المثال، شيء يصعب التحكم به في مناسبات كهذه إلى الدرجة التي يمكن أن يفوق فيها طقس الحِداد نفسه!. كان السؤال الأهم هو، كيف سُندخل فريق العمل إلى هذا العالم دون أن نعّكر صفوه, وكيف سنضع الكاميرا بشكل حميم وسط العائلة دون أن نسبب كارثة؟ كانت فكرة مستحيلة أو شبه مستحيلة. "سيكون فيلماً درامياً مدهشاً" قال مديرالأنتاج، مضيفاً:"لكن هل سيكون وثائقياً؟". أما مسؤولو القناة التلفزيونية فقد تسائلوا، حين إطلعوا على الفكرة، بقولهم:"هل أنت متأكدة أن ما تقولينه في هذا الفيلم هو حقيقة فعلاً؟". انتفضت حينها بخوف وغضب وقررت إنجاز هذا الفيلم بأي شكل من الأشكال. غادرتهم لمدة شهر للعثور على مواقع التصوير وبقيت في المنطقة التي أردت أن أصور فيها الفيلم. وكان الوقت ثمين جداً لما سيأتي. لا يمكنني مطلقاً أن أنسى كيف كنت أتطلع بوجوه الناس وأنا أطرح عليهم أسئلة هي الأكثر إزعاجاً وبغضاً. تعرفت مع مرور الوقت على جميع مدراء المقابر (كما يطلق عليهم) في المنطقة، وإلى حد ما على كل الناس الذين يأتون لزيارة موتاهم بشكل منتظم والذين كانوا عادة يحملون لهم في السلال الفواكه الطازجة والحلويات ويقرأون لهم الصحف أو ببساطة يمضون الوقت معهم. ليس هذا فحسب، بل كانوا يأتون بأطفالهم وأحفادهم ليتمكن موتاهم من رؤية الصغار وهم يكبرون. وهكذا خطوة فخطوة تحركتُ نحو الأمام لأدخل إلى هذا العالم الشعري الغريب. عالم سوريالي يجمع الأطراف المتناقضة ويوحّدها: التسلية والحزن العميق، الابتهاج بالحياة من خلال الأحتفاء بالموت. كان عويل الأحياء يشبه أنغام تحّلق في الهواء الطلق، مؤاساة تتماهى وكلمات نص مسرحي، وموت كأنه شيء مجتزء من الحياة. كل شيء مترابط ومتصل، كما لو أن ليس ثمة شيء منفصل، وكما لو ان الحياة تحتفل بانتصارها على الموت. غالباً ما كنت أرى مشاهد لا تصّدق في المقبرة: لقد رأيت شاباً أتى لزيارة ضريح جّده ليقدم له خطيبته، وكانت شابة جميلة متزينة ترتدي أجمل ثيابها من أجل هذا الهدف الغرائبي. وحين غادرا المقبرة تركا صوراً إلتقطاها في هذه المناسبة كي يستطيع الجد "أن يحتفظ بهما قريباً منه". شاهدت أيضاً شباناً وموسيقيون جاؤا ليحتفلوا بميلاد صديقهم المتوفي. وضعوا آلاتهم على القبر وبدأوا يغنون عبر مكروفوناتهم أغانٍ غير لائقة تماماً. كانت موسيقى فولوكلورية وديسكو وجاز .. وهي ذات الأنواع التي كان يفضلها المتوفي في حياته. شهدت شجاراًت غريبةً بضمنها رأيت شاباً كان يجلس حزيناً لأن أحداً ما غرس شجرة كبيرة فوق القبر المجاور لقبر قريبه حاجباً إياه عن النظر:"لايمكنه رؤية شيء" قال متشكياً. أما صاحب الشجرة فلم ينصاع أو يلين لمطالب جاره، لكنه أجاب:"حين كان والدي حّياً كان يحب أن ينام تحت ظل شجرة، فلماذا ينبغي عليه أن يغير عادته الآن؟". وحين تصاعد الأنفعال نشبت معركة حقيقية بينهما أمام بورتريهات بحجمها الطبيعي، كما لو أن الموتى يشاهدون شجار الأحياء. وهكذا، رأيت، مع ارتياح كبير بالطبع، أن ما كنت قد كتبته وتخيلته أصبح الآن شاحباً وباهتاً بالمقارنة مع الواقع. لقد ذهب خيال الأشياء الحقيقية إلى أبعد ما يمكن أن أتخيله. وهذا الشيء علمني الكثير. علمني أن لا أستخف بخيال الواقع مطلقاً، أن لا أخنقه بأفكار مُعّدة سلفاً بوسعها في بعض الأحيان أن تحول دون اكتشاف الأشياء التي لم تتوقعها أو تخطط لها. كان الواقع، يهتز ينبض ويتنفس أمام الكاميرا وهو متخم بإشارات النقائض وإستعاراته. إنه واقع وسوريال، مرئي ومخفي، جلي ومبهم، في ذات الوقت، متطلباً الصبراً والتواضع. لقد أدركت أنه ينبغي أن تكون على إهبة الأستعداد لمفاجئات بعيدة الأحتمال، ولأكثر التغيرات تشويشاً. تماماً مثلما قال فيلسوفنا:"حين نواجه الحياة فنحن إنما نواجه لغزاً. لغز نسعى لفهمه، إلا إن سره وغموضه يصعدان إلى السطح.". "أخبروا أصدقائي إني مُت" هو أكثر أفلامي جنوناً وتناقضاً. لهذا السبب أجدني أختزن مثل هذه الذكريات الأثيرة عنه. كان تحدياً حقيقياً لنا جميعاً، تحدياً لفريق العمل كله ولمدراء الأنتاج وللقناة التلفزيونية. نجاحه مع المتلقي وفي المهرجانات السينمائية والجوائز التي نالها، كل ذلك هو بمثابة ثناء لمخيلة الواقع، مكافئة للعالمين الحقيقي والسوريالي معاً، حيث الضحك والدموع يمتزجان، وحيث الحزن والفرح يتعايشان، وحيث الحياة والموت يصبحان شيء واحد. أكثر الأشياء سوريالية في الأمر هو إن السماح بتصوير الفيلم أعطي لي من قبل البطل الرئيسي في الفيلم، أي الشخص المتوفي نفسه!. حين وصلت منزل المتوفي وأوضحت لزوجته موضوع الفيلم، تطلعّتْ بي لفترة طويلة وبعدها قالت:"لا أستطيع أن أقرر ذلك بنفسي، ينبغي أن أسأله أولاً"!. لم أستطع أن أفهم قصدها في الحال. أخذتني إلى الطابق العلوي ودخلنا في غرفة كبيرة هناك حيث يستلقي زوجها المتوفي. أنشدتْ له أغنية توضح له فيها سبب وجودي في المنزل، متسائلة عن رأيه بشأن فكرتي حول عمل فيلم (معه!). وهكذا جلست إلى جوارها أتساءل، هل ما أراه هو حقيقة أم خيال؟ وفي نفس الوقت كنت قلقة وخائفة جداً عما (سيقوله!) المتوفي!. إلتفتت المرأة نحوي بعد برهة لتقول أن زوجها قد وافق أن يتصور معي. منذ تلك اللحظة ولغاية الآن، حين أُسئل عن أي شيء يتحدث هذا الفيلم، لا أعرف ما أقول حقاً: هل هو عن الحياة والموت؟ عن الحزن والفرح؟ أم عن الحب والخلود؟ مازلت أجهل الأجابة عن هذا السؤال، لكنني أشعر بسعادة غامرة لأنني أنجزته. *** (فيلموغرافيا) ثلاث حيوات لأدوارد شيفرنادزة. 1999 كانت يوم ما تدعى الشيشان. 2001 تهويدة شيشانية. 2002 قل لي من أنا؟. 2004 أخبروا أصدقائي أني مّت. 2004 خط الأنابيب المجاور. 2005 (فاز بجائزة أكاديمية الفيلم الأوربي كأفضل فيلم وثائقي). التنين في المياه البدائية للقوزاق. 2005 قرية الحمقى. 2008 (فاز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان ساندانس السينمائي في الولاياتالمتحدة الأميركية). شيء ما عن جيورجيا. 2009 (*) ولدت المخرجة السينمائية نينو كيرتازي عام 1968 في مدينة تبليسي عاصمة جورجيا. بعد حصولها على ماجستير في الأدب عملت كمستشارة للرئيس الجيورجي السابق أدوارد شيفرنادزة وكصحفية لتغطية النزاع المسلح في القفقاس. أما عملها فقد بدأته في تسعينات القرن الماضي عبر كتابتها سيناريو فيلم (الأثنين)، وكممثلة، لعبت نينو بعض الأدوار في أفلام روائية أهمها دورها المميز في فيلم "رئيس الطهاة عاشقاً" للمخرجة الجيورجية نينا ديورجازي 1996، الذي حصل على جائزة مهرجان كان في نفس العام ورشح لجائزة الأوسكار. تعيش نينو في فرنسا منذ عام 1997 وقد عملت مع المخرجين بيتر بروك وجان بيير آمريس وفيليب مونير وجيرارد بيرس وأليفر لانغلس. وهي تجيد اللغات التالية: الروسية، الجيورجية، الفرنسية والأنكليزية. (**) "بروداكشنس" مجلة سينمائية سنوية تطبع في إنكلترا وتصدرها أكاديمية الفيلم الأوربي. تحرير: بيتر كاوي و باسكال إيديلمان. العدد 15 العام 2007 ص166 *** علي كامل خاص بالفوانيس السينمائية