منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي غادر المخرج ابراهيم البطوط وطنه مصر متنقلا من بؤرة صراع الى اخرى، مسجلا لقرابة العشرين عاما بكاميرة الفيديو حروب عدة منها؛ حرب الخليج الاولى، كوسوفو، حرب الصومال، الاحتلال الامريكي للعراق...، مما وضعه امام سؤال دائم لماذا خيار الحرب؟ هل ندور في حلقة مفرغة؟ اما من متسع للسلام؟ ترحاله الدائم من حرب الى حرب، جعله يختبر ماذا يعني ان تكون في قلب الموت، وجعل حنين العودة الى الوطن يكبر في داخله، لكن ما ان يعود من جديد الى وطنه حتى يكتشف ان ثمة مسافة تفصله عنه. لكل ايثيكاه فهم تجربة ابراهيم البطوط الشخصية امر هام كمدخل لفهم فيلمه الروائي الطويل الاول "ايثاكي" انتاج 2005، وفهم الخيط الرابط بينه وبين عوليس بطل ملحمة الاوديسة الاغريقية، والتي تروي رحلة عودته الى وطنه ايثاكي بعد انتهاء حرب طروادة، حيث كان من المفترض ان تستغرق عودته بضعة ايام لكنها استمرت عشره سنوات خلقت داخله حنينا الى وطنه ايثاكي. لكل ايثيكاه وملحمته الخاصة... فيبدأ ابراهيم فيلمه بقصيدة "ايثاكي" للشاعر اليوناني كفافي الذي عاش في مصر مطلع القرن الماضي، تلقيها امرأة فيمتزج صوتها والكلمات بطريق نسبره مع احد شخصيات الفيلم، وهو يسير في طريق عودته بالسيارة الى المنزل بعد غياب، ثم نستكشف من الداخل المنزل المليء بالتفاصيل والذكريات، والذي تضفي عليه الاضاءة دفئا خاصا، اما الموسيقى فتولد في النفس رغبة في اكتشاف ما هو غامض، اذن تتظافر مختلف العناصر منذ البداية الاولى لتضع المتفرج في جو تأملي شاعري، والموسيقى المنسابة بهدوء تدعو المشاهد معها للتفكير، الامر الذي قد يتطلب من المتفرج ان يشاهد الفيلم مرة اخرى قبل ان يشكل فكرة خاصة حول الاشياء، ليس لصعوبة لغة الفيلم انما لابتعادها عن الصيغة والبناء التقليدي، فالثلث الاول من الفيلم هو تقديم لمختلف الشخصيات التي يبلغ عددها 15 شخصية، دون ان يجد المتفرج الرابط الذي يجمع بينها، وما هو الحدث الذي يتطور، اما الثلث الثاني من الفيلم فيوظف في التعمُق في تقديم الشخصيات والتقاط بداية الرابط بينهم، وصولا الى الثلث الاخير الذي تتضح فيه الامور والعلاقات، فاحمد مخرج وثائقي صور كثيرا من الحروب والصراعات في مختلف مناطق العالم، وهو اليوم يرغب في اخراج اول فيلم روائي له، بمساعدة عدد من الاصدقاء الذين هم باقي شخصيات الفيلم –كما هو واقع حال ابراهيم البطوط في فيلمه هذا- يجتمع احمد معهم ليتحدث عن الفيلم الذي لم يتبلور في ذهنه تماما، ولم يصل بعد لصياغته النهائية، لكن هناك اشياء تربط جميع هذه الشخصيات، رغم ان كل واحد منهم قد تعرض لتجربة مغايرة، وكل منهم له اهتمامات مختلفة، لكن في النهاية كل منهم يكمل الاخر، فتدفعنا الشخصيات الى الامام لاستكشاف الذات وعلاقتها مع الطبيعة وكل ما يحيطها، وصولا الى السلام الداخلي الذي كل ممكن ان يصله ولكن بطريقته الخاصة، فهناك عصام من قدامى المحاربين الذي تركته الحرب ضعيف البصر، انما وجد سبيله الى السلام في الموسيقى الكلاسيكية التي عشقها، وعمر مصور فوتوغرافي مهتم بالتجربة الصوفية، والذي يحاول من خلالها ان يتناغم مع الطبيعة وكل من حوله، وان يغير العلاقة المتوترة مع حبيبته المغنية كريمة نايت، اما حنان تؤمن ان الحب طاقة ايجابية، وانها قادرة ان تودع هذه الطاقة في كل منحوتة فخارية تصنعها، ولا يمكن ان يدرك هذه الطاقة ويستفيد منها الا من يؤمن ويرغب بذلك، وهذا ما تسميه بالسحر الابيض، النقيض للسحر الاسود السلبي، وهناك بطرس الذي يجتهد في الاقلاع عن الخمر الذي ادمنه، اما امجد فهو مغرم بكل ما هو قديم، وزوجته مندي عالمة في الانثروبولوجيا وفتحاول دراسة وفهم هذه النماذج، اذن "ايثاكي" هي رحلة عودة ابراهيم بطوط الى ايثيكاه مصر، ومحاولة تأمل وفهم والتماس طريق السلام الداخلي، لتخفيف حدة صراعاتنا الداخلية مع انفسنا او مع الاخرين، التي من شأنها ان تقود الى الحروب، بالتالي اعادة صياغة العلاقة مع الوطن. "ايثاكي" انعكاس لتجربة ابراهيم الذاتية، لذا لن تتمكن من التعرف على الحدود الفاصلة بين الواقعي والمتخيل، فهو مزيج من الوثائقي والروائي، فالشخصيات تحمل اسماءها الحقيقة، وهم اصدقاء المخرج ابراهيم في الواقع كما هم اصدقاء المخرج احمد في الفيلم. ينتهي الفيلم من حيث بدأ بقصيدة "ايثاكي" يليقيها على مسمع مندي يوسف الشخصية التي بدأ الفيلم معها، وهو يوناني مقيم في مصر وعاشق لتراثها، وهو اذ يردد كلمات القصيدة يدفعنا الى تأمل معنى الوطن، هل الوطن هو المكان الذي ولدنا فيه وتعود اليه جذورنا؟ ام انه المكان الذي يمنحنا المعرفة والحكمة؟ يذكر ان الفيلم قد انجز بتمويل ذاتي وبمساعدة ممثلين من الاصدقاء الذين تبرعوا باجورهم من اجل انجاز هذا الفيلم، وهذا نموذج للسينما المستقلة التي بدأت تفرض وجودها في مصر. رانيه عقلة حداد هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته ''الفوانيس السينمائية''