يكشف معاناة المبدع و الأسرة المفككة بلغة سينمائية متميزة في المهرجان الدولي الثامن للفيلم بمراكش هي مجموعة من الحوارات بين شخصيتين أو أكثر. و مجموعة من الأمكنة لا تتعدى خمسة وسط ديكورات محاطة بظلمة . تلك هي معالم الشريط الأرجنتيني " العش الفارغ " للمخرج الشاب دانييل بيرمان في سادس تجربة سينمائية له . والذي غطى ساعة ونصف ليحكي قصة عائلة يشوبها نوع من التفكك . في البيت زوج وزوجة يعيشان عزلة ليبحث كل واحد منهما عن فضاء آخر أو عشرة أخرى من اجل الاستمرار في الحياة الجماعية . الفيلم من جهة أخرى يحكي معاناة الفنان داخل أسرته يهرب من زوجته ليقرأ أو يكتب . وبالرغم من بساطة القصة إلا إن أسلوب الحكي السينمائي يجعل المشاهد يتابع بنية النص باحثا مع المخرج عن إمكانية البناء الجديد للعلاقة الثانية بعد الزواج . هكذا فشل المشاهد في نجاح علاقة ليونادو (لعب دوره الممثل أوسكار مارتينيز) طبيبة الأسنان بعد أول معاشرة له معها مستغلا فقط تلك الجملة التي أشار فيها انه لم يسبق له أن خان زوجته . كما فشل في تميز العلاقة التي تربطها الزوجة مارطا (ولعبت دورها سيسيليا روث) مع الطلبة الدارسين معها بالرغم من تلك اللقطات التسللية التي يأخذها المخرج أحيانا سواء عن طريق زوجها الملاحظ أو غيره . المخرج وكأنه يحثنا على التعاطف مع بطله الفنان الذي يعيش وحدة يفرضها على نفسه وكأن النقاش أصبح غير ذي جدوى والذي يطول بين الزوج والزوجة من بداية الفيلم إلى نهايته سواء بشكل ثنائي أو داخل الجماعة . فهل هي سيرة ذاتية أم أنها سلسلة من الأفلام التي تكشف الحياة الاجتماعية للأسرة الأرجنتينية اليوم وفي قوالب فنية متميزة لاتتركك تعاني أنت كذلك من الوحدة مع الفيلم المعروض حيث يدفعك للاشتغال معه في تفكيك رموز اللقطات والكادرات المليئة بالإيحاءات . فالزوج حينما يكتب يضعه المخرج في مكان ما معزول عن الحياة العامة للأسرة بل حتى للزوجة الوحيدة معه في البيت . والعزلة تتم كذلك عن طريق الإنارة الخافتة أولا أو المتجهة إلى احد أمكنة الفضاء مكسوة باحمرار الديكور وغالبا ما يبقى سجين الأريكة الحمراء وكأنها تحاصره من أربع جهات وهو مستسلم لها يكتب رومانسية رائعة تحت عنوان "جسدان يطفوان فوق الماء" تمكن المخرج من تقريب الزوجين لتصوير هذا العنوان في لقطة جميلة يوحي بها للمشاهد أن العلاقة تبقى عادية رغم عنف الوحدة . الزوج هو ذلك الإنسان العاشق للورقة والقلم إذ تعانقهما كاميرا المخرج وهو يكتب قصيدته الجميلة عن الشخصين اللذان يطفوان فوق الماء . يعشق الوحدة معهما حيث الكتابة القراءة هدفه والعيش عبرهما في عوالم جديدة لا يجدها في حياته الخاصة و هنا يمتزج الخيال بالواقع , واقع الأسرة وكأي أسرة في العالم تعاني من التفكك وبأشكال مختلفة يعطيها المخرج صيغ تعبيرية تتجلى في الإنارة الموزعة بشكل محدود داخل الفضاء الذي يتحرك فيه الفنان و الشخصية الرئيسية في الفيلم أو في اتجاه جزء أساسي من جسم الشخصية المذكورة كالوجه و هو يفكر أو يكتب أو يستمع .... كما أن الكاميرا تبقى تابتة من كشف معاناة الرجل ولكنها تتحرك بالزوم نحو الوجه أو اليدين وبهذا تتناغم كل مكونات الصورة السينمائية لإيصال الفكرة المرغوبة من طرف المخرج وتتوالى الصور لتتحول من غرابتها إلى الألفة و هو دور الفن الحقيقي و خاصة السينما التي تستمد قوتها من باقي الفنون الأخرى . العش الفارغ اشتعل على المكونات السمعية و أساسا الحوار والذي يدور بسرعة فائقة بين الزوجين و هو باللغة الاسبانية في البيت حيث لا نتيجة . أو بين الصديقين في أمكنة متنوعة وهنا النصيحة و الإطلاع على الإخبار بين الفنان وصديقه . أو داخل جماعة من الأصدقاء و الصديقات أو أثناء ممارسة الرياضة في الغابة . من هنا تتجه الكاميرا إلى العش كدلالة رمزية على الربط بين الواقع و الخيال و على فراغ العلاقة داخل بيت الزوجية مما دفع الفنان إلى البحث عن تعويض جنسي لها . ودفع المرأة إلى التعويض الاجتماعي الصداقة الطلابية والفرجوية . والحوار يستمر لكن بالحركة البسيطة لصاحبنا وهو يتحرك داخل فضاء البيت متألما لوضعه إلى انه يتوقف عن الكتابة . إذن فهو يبحث عن الحرية ومن أجمل اللقطات المعبرة عن ذلك مشهد ممارسة رياضة الجري حيث الطيور تتحرك في الهواء تعبيرا عن الحرية . و مشاهد الطائرة / اللعبة والتي يقودها كما يشاء هو الفنان . ربما يتمنى أن يقود زوجته كالطائرة . ومن رمزية الإنارة و الألوان و اللقطات الكبرى إلى رمزية العنوان " العش الفارغ" انه أول ما يتعرف غليه الإنسان قبل مشاهدة الشريط و بمساعدة التكنولوجيا الحديثة يحصل في المرتبة الثانية على ملخص وملصق الفيلم . وغالبا ما يتبادر إلى الذهن أن العش هو مكان استقرار الأب و إلام والأبناء في المراحل الأولى من العمر الأسري لكن يبقى فارغا بعد ذلك و هو ما حصل في الفيلم حيث طارت الفراخ من أعشاشها وسافرت إلى الخارج و حينما عادت البنت إلى بيت أسرتها أو عش إلام والأب تتمتع برقصة جميلة مع أبيها رغم أن عشقها يختلف عن عشق الأب صاحب الموسيقى الهادئة و العاطفية . انه فيلم مبني على اللقطات الكبرى حتى يتمكن المخرج من رصد كل الحالات النفسية للفنان و زوجته وصديقه وغيرهم كثير . إنها قصة معاناة تهدد كل المجتمعات أعاد كتابتها مخرجنا الأرجنتيني في سبيل البحث عن الحلول الممكنة والغة سينمائية بامتياز . مراكش: من حسن وهبي