حوار مشترك مع رئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة الدكتور الحبيب ناصري ومديره الدكتور بوشعيب المسعودي. تعيش مدينة خريبكة هذه الايام على إيقاع تحضيراتها الأخيرة لاستقبال ضيوف مهرجانها السنوي الخاص بالفيلم الوثائقي، هذه المدينة التي أضحت مركزا للعديد من المهرجانات والملتقيات الوطنية والدولية وأصبحت محطة مهمة لتلاقح الثقافات المختلفة ومنبرا لايستهان به للتواصل الابداعي والفني. مدينة تحدت هامشيتها لتصدر لنفسها شهادة ميلاد جديدة، التزمت بالكشف عن حقيقة منطقة تعج بثروات ثقافية غنية وتزخر بالعديد من الكفاءات البشرية المهمة، هو إذا التحدي الذي رممت به هذه المدينة أساساتها، وروت به جذورها، وسقته لأبنائها، هؤلاء الأبناء الذين حملوا على عاتقهم حلم تحويل المدينة الى معبد ثقافي مقدس ومحراب ابداعي مهيب. من هؤلاء الأبناء الدكتور الحبيب ناصري رئيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة و الدكتور بوشعيب المسعودي مدير نفس المهرجان، اسمان حاولا تحقيق حلم طالما راود السينمائيين المغاربة وخصوصا المختصين في الأفلام الوثائقية، فأسسا للمدينة الأم ومن خلالها للمغرب ككل مهرجانا دوليا يحتفي بالفيلم الوثائقي كمعطى فني يتجاوب والاهتمام العالمي الذي أصبح يولى لهذا الجنس السينمائي، اسمان يتميزان بخلفية ثقافية وأكاديمية عريضة تتأرجح بين رصانة فكرية عميقة وحس فني أريب، اسمان حاولنا استنباط معالمهما الداخلية، واستجلاء ما تنطوي عليه نظرتهما الخارجية لما أسساه من فعل ثقافي وفني لمدينتهما خريبكة من خلال هذا الحوار المشترك. البداية ستكون مع الدكتور الحبيب ناصري الذي أثر بشكل مباشر في هوية هذا المهرجان والبسه شيئا من شخصيته البراغماتية وحسه الصوفي وتفاعله المطلق مع الصورة، واصبح المهرجان من خلاله صوتا متعدد النبرات تختلط فيه الكلمات بالصورة والادب بالفن...صوفية ابداعية متميزة تحفز الزائر للمهرجان على وضع نفسه أمام مرآة منكسرة تختلف فوقها الوجوه والأذواق. الدكتور الحبيب الناصري - المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة وصل دورته الثالثة، ما هي أهم الأولويات التي وضعتها إدارته لهذه الدورة؟ اهم الاولويات توسيع قاعدة الدول المشاركة، وتطوير بعده الاشعاعي داخل وخارج المدينة والوطن ككل من خلال التعريف بانشطته الرسمية والبانورامية، ومدى رغبته القوية في تقريب الفيلم الوثائقي للمؤسسات التعليمية والتكوينية، نظرا للبعد التربوي والثقافي والنقدي والجمالي، من هنا وجب التنويه بدءا بمن يؤمن بمشروعنا الوثائقي هذا ونخص بالذكر المركز السينمائي المغربي، والمجمع الشريف للفوسفاط والمركز الايطالي الثقافي والمعهد الوطني للتهيئة والتعمير. - كيف تستطيع الموازنة بين مسؤولياتك الكثيرة التي تتوزع بين العمل والمهرجان؟ وهل تترك لك هذه المسؤوليات مجالا كافيا للكتابة السينمائية؟ متعتي في هذه المسؤوليات التي تتداخل وترتبط بالبحث عن متعة المشاهدة والكتابة، ففكرتي التي تم تحويلها الى فيلم وثائقي من طرف المخرج الفلسطيني فايق جرادة، هي وليدة هذا الحراك السينمائي الوثائقي الذي أعيش في خضمه، بالاضافة الى وضع لمساتي الاخيرة على كتاب نقدي سينمائي سيكون مفيدا ان شاء الله للساحة النقدية السينمائية المغربية والعربية، طبعا من يدفع ضريبة هذا الانشغال الكلي بهذه المسؤوليات هي زوجتي واطفالي الاربعة حيث لا اشاهدهم الا بين الفينة والاخرى وقد تعودوا على غياباتي المتعددة حتى وانا داخل المدينة التي اسكنها نظرا للاعدادات الخاصة بالمهرجان وقضايا ثقافية اخرى - ألا ترى معي أن كثرة المهرجانات السينمائية في المغرب تصيب الجمهور بالتخمة عوض تثقيف ذائقته الفنية والفكرية؟ نعتقد ان ظاهرة المهرجانات السينمائية في المغرب، هي ظاهرة ثقافية صحية في غياب قاعات سينمائية كافية نظرا لتهاوي هذه الاخيرة وتقليص عددها، وذلك في اطار تنامي ثقافة العقار، طبعا هنا ينبغي ان نشير الى ان البقاء لما هو مفيد ولمن سيضيف فكرة ما للمتلقي، وعموما معظم هذه المهرجانات، تقدم فرجة ممتعة للجمهور، وفرصة لتحقيق تماس ثقافي وفني وجمالي، ولنطرح السؤال بصيغة اخرى ماذا لو لم تكن هذه المهرجانات؟ - هناك من يرى أن الفعل السينمائي في المغرب محصور في مناطق محددة، ومختزل في مهرجانات بعينها، ما ردكم على مثل هذه الأفكار؟ المهم هو ما ذا نقدم من خلال هذه المهرجانات، ما طبيعة الانشطة الفكرية والتكوينية، ما طبيعة المساهمة في تنشيط المدينة اقتصاديا وثقافيا واجتماعيا، في ظل تنامي العديد من اوجه التطرف الفكري الرافض لكل اساليب التعايش والتساكن والتسامح.هناك طبعا ما يمكن وصفه بالمهرجانات الكبرى، التي لها امكانيات ضخمة واخرى لها امكانيات بسيطة جدا، المهم كل مهرجان وتصوراته وغاياته. المعيار الوحيد الذي ينبغي ان نحتكم اليه هنا هو ما مدى جدية ومصداقية ونفعية هذه المهرجانات في افق تطوير صورة المغرب السينمائية والثقافية في زمن عولمة لا يمكن فك اسرارها الا من خلال الصورة. - نرى ان المهرجان سيتعدى مرحلة التأسيس باجتيازه الدورة القادمة، هل هناك مشاريع شراكة مستقبلية بين مهرجانات سينمائية أخرى وطنية أو دولية؟ نعم هناك مجموعة من المشاريع المستقبلية الهامة والمفيدة سنعلن عن بعضها خلال الدورة الثالثة بل سنوقع بعضها عما قريب جدا مما يوحي باننا نسير على درب العمل المشترك المفيد للجميع. - هناك بعض المهرجانات الغربية أو حتى العربية تتبنى بعض المشاريع السينمائية وتقوم بانتاجها، وبالتالي تكون لديها يد مباشرة في تفعيل الفعل السينمائي ببلادها، هل لديكم مخططات في هذا المجال؟ نعم لدينا مفاجأة جد سارة في هذا المجال ونحتفظ بها من اجل تقديمها خلال حفل الاختتام والعمل هو مشروع فيلم وثائقي بين المغرب في شخص مهرجاننا وبلد عربي آخر. - معروف ان الفيلم الوثائقي يخضع لقواعد صارمة تهدف الى تخليق وعي الجمهور وتطوير ذائقته الثقافية، هل الفيلم الوثائقي المغربي يصب في نفس المنحى ام مازال يستفزنا ويبتزنا كجمهور؟ الفيلم الوثائقي هو جنيني أصلا لا زال المخرج المغربي، بشكل عام وربما لاسباب متعددة بعيدا كل البعد عن الفيلم الوثائقي نظرا لطبيعة الدعم الموجه الى الافلام الروائية ونظرا لكون الفيلم الوثائقي هو مجال للبحث ويتطلب صبرا عميقا وتنقلات متعددة ان احتاج الفيلم الى هذا ناهيك عن طبيعة المادة المقدمة التي ينبغي تشريحها جيدا. كل هذا جعل العديد من المخرجين الالتصاق بالفيلم الروائي، والقليل القليل هو من بدأ يلامس الفيلم الوثائقي ببلادنا ناهيك عن طبيعة تلقي المغربي والعربي ككل للمادة السمعية البصرية كتلق نمطي في العديد من الحالات. - بدأ المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة بتحقيق تواجده وحضوره الفعلي على الخريطة السينمائية المغربية ابتداء من الدورة الثانية، ماهو شعوركم وأنتم تقفون على أعتاب الدورة الثالثة؟ شعور من ازداد له ابن وولد من مخاض صعب، لكن الان المولود قد وصله سنه الى الثالثة، مما يعني انه بدأ يقف على رجليه، وهو الآن قادر على أن يدافع على نفسه لانه أصبح من الممكن أن يصدر كلماته الاولى. هذا المولود هو للمدينة وللوطن وللعرب وللانسانية ككل. - هناك من يسعى الى اختزال الفيلم الوثائقي وما يمثله من حمولة ثقافية الى مجرد يافطة ترفيهية و دعاية تجارية لاغير، كيف ترون مثل هذه التصرفات؟ هذا الصنف المخدوم هو موجود، لكن وفي اعتقادنا، وفي ظل هذه العولمة المرعبة وما يعرفه العالم من حراكات متعددة، سيجد الفيلم الوثائقي الجاد مكانته الطبيعية لدى المتلقي، مما يستوجب معه ضرورة ان يحتل الفيلم الوثائقي ببلادنا مكانته الطبيعية في العديد من المنظومات التربوية والاعلامية والثقافية والجمعوية. نحن اليوم في امس الحاجة الى قناة وثائقية مغربية متخصصة في هذا المجال ان نحن اردنا ان نتحاور مع الذات ومع الآخر بلغة علمية وثقافية وجمالية. الفقرة الموالية من هذا الحوار ستكون أسئلتها موجهة لمدير المهرجان الدكتور بوشعيب المسعودي، وإن كان بعضها مما سلف. الدكتور بوشعيب المسعودي من الأطباء الأكفاء في مدينته، طبيب مختص في أمراض العظام، حبه للسينما والمجال الفني دفعه الى تحويل عيادته الى خلية نحل نشطة ذات انفصام غريب من نوعه ومفارقة دالة يتقابل فيها الدواء العضوي بالدواء الروحي والفكري في أبهى صورها، تروم التجسيد الرمزي والأيقوني للفعل الحركي للصورة بتجلياتها الملهمة في تبنيها الضمني للقدرة على الشفاء والتطبيب. الدكتور بوشعيب المسعودي - الدكتور المسعودي، نعرفك طبيبا مختصا في أمراض العظام والمفاصل، هل المهرجان بالنسبة إليك عيادة ثانية لمعالجة الأفكار وتطبيب الرؤى أم أنه محطة سنوية فقط لنسيان متاعب المهنة وهموم الحياة؟ إن من مبادئ الطب بصفة عامة، ومن الدروس الأولى التي نتلقاها في الكلية هي السيميولوجيا. وهذا العلم مطبق على السينما وعلى دراسة الأفلام وتحليلها ونقدها. صحيح أن مهمة الطب مليئة بهموم الناس ومشاكلهم. وأمراض الروماتيزم أمراض مزمنة وتؤدي في بعض الأحيان إلى الإعاقة. والطبيب المختص لابد أن يكون له صبر ونفس طويل، أولا للاستماع إلى أقوال، وشكايات، وما يدور بنفس المريض. وثانيا لإعطاء النصيحة والعلاج الناجع، وأخذ الوقت الكافي لذلك. والسينما بالنسبة لي هواية منذ الصغر وشغف وعشق في الكبر، تنسيني هموم الناس وتفتح آفاقا عريضة للبحث والتثقيف الحر والذاتي، وهي أسلوب علمي ديداتيكي، وهي فضاء ثان للقاء شخصيات مغربية وعالمية، وتبادل الأفكار. أما المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي فهو محطة (لا غير) لإبداء مجهود سنوي يرفع من الاعتراف بالسينما بصفة عامة وبالوثائقي بصفة خاصة بالمغرب وبمدينة خريبكة. - ألا ترى معي أن كثرة المهرجانات السينمائية في المغرب تصيب الجمهور بالتخمة عوض تثقيف ذائقته الفنية والفكرية؟ بالفعل كلامك صحيح، اللهم إلا إذا كان هناك اختصاص مخصص لنوع واحد من الأفلام، مثل المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة فهو خاص بالفيلم الوثائقي لا غير. وليس هناك خليط من عدة أفلام. - هناك من يرى أن الفعل السينمائي في المغرب محصور في مناطق محددة، ومختزل في مهرجانات بعينها، ما ردكم على مثل هذه الأفكار؟ بالفعل العمل السينمائي بالمغرب يمكن أن نقول محصور في المدن الكبرى كالرباط سلا وطنجة ومراكش... وهذا رأي المسؤولين ولكن هناك مهرجانات صغيرة بالاسم ولكن كبيرة بالمفعول في المدن "الصغيرة" كخريبكة أو زاكورة أو شفشاون أو سطات... تؤدي ما لا تؤديه المهرجانات "الكبرى" التي هي في بعض الأخبار "در رماد في العين" فمشاهدة الأفلام مقتصرة على بعض أفراد وحضور الندوات كذلك... بعكس المهرجانات "الصغيرة" والتي نلاحظ فيها أن المتتبعين ملازمين لقاعات العرض ولسماع ونقاش الأفلام والندوات. - معروف ان الفيلم الوثائقي يخضع لقواعد صارمة تهدف الى تخليق وعي الجمهور وتطوير ذائقته الثقافية، هل الفيلم الوثائقي المغربي يصب في نفس المنحى ام مازل يستفزنا ويبتزنا كجمهور؟ الفيلم الوثائقي بصفة عامة هو "سينما الواقع" هو "سينما الواقع الخلاق" هو مناقشة فكرة أو شخصية أو موضوع يلاصقنا ويتحكم في بعض الأحيان في حياتنا اليومية وفي معاشنا، والأفلام الوثائقية منذ تاريخ نشأتها تصب في ذلك. هناك أفلام دعائية وسياسية اتخذت من الفيلم الوثائقي وسيلة للدفاع ولتسويق منتوجها أما بالنسبة للمغرب فالفيلم الوثائقي غير معروف وقليل جدا في المغرب، فهو لا يدر أرباحا على مخرجيه ومنتجيه، والأفلام التي تشاهدونها خلال المهرجان ممتازة وحصلت على جوائز (فيلم في انتظار الثلج لياسين الإدريسي وفيلم مسار لاجئين لعلي بنجلون) - بدأ المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بخريبكة بتحقيق تواجده وحضوره الفعلي على الخريطة السينمائية المغربية ابتداء من الدورة الثانية، ماهو شعوركم وأنتم تقفون على أعتاب الدورة الثالثة؟ ليس فقط على الخريطة السينمائية المغربية بل الخريطة السينمائية الدولية فقد أصبح ذا صيت عالمي وهذه الدورة الثالثة تشاهد بعين أخرى عين محترفين وليس هواة. فأنا والدكتور الحبيب ناصري والأستاذ حسن مجتهد عملنا بشكل احترافي مع هذه الدورة ومع المشاركين فيها وستكون هناك مفاجآت تثبت ذلك. لا يخصنا سوى الدعم المادي لإنجاح هذا المهرجان وللرفع من مستوى السينما الوثائقية بالمغرب وخارجه وهذه مناسبة أشكر فيها المركز السينمائي المغربي المساند المادي والمعنوي الممتاز لهذا المهرجان. - هناك من يسعى الى اختزال الفيلم الوثائقي وما يمثله من حمولة ثقافية الى مجرد يافطة ترفيهية و دعاية تجارية لاغير، كيف ترون مثل هذه التصرفات؟ إن الفيلم الوثائقي لا يمكن اختزاله (يمكن استغلاله) فهو فيلم الحياة وفيلم الحقيقة وميزته الأصلية: الأصالة والواقعية وقد صرح "كينو كلاز" سنة 1924 بأنه تكميل وإتقان لعنصر مهم وهو العين. فهو يمثل ويعيد تمثيل الحياة في جميع أحداثها وتظاهراتها: حياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الطبيعة، بدون تشغيل ممثلين محترفين وبدون ديكورات وبدون استوديوهات. كما قلت يمكن أن يستغل في اتجاهات محدودة دعاية وتجارية وترفيه. وهو ليس كذلك وليس هذا هو. فالجمعية تطلب من المسؤولين عن هذا الميدان الاهتمام بالفيلم الوثائقي ودعمه فكريا وخاصة ماديا فهو المستقبل وهو الماضي والحاضر. ودعم المهرجانات المختصة في هذا النوع من الأفلام والتفكير في صناعة هذا الفيلم وخلق قناة مغربية خاصة بالأفلام الوثائقية. انتهى الحوار إن الخطاب السينمائي لا يقتصر على الشاشة الكبيرة والصغيرة فقط بل يتعداهما الى ابعد من ذلك بتمحوره حول الفكر الجماعي وخضوعه للفعل الميداني وتلك هي اصعب الادوار وأقساها، حيث يرتكز المجهود كله في كيفية الاستمرارية خدمة للصورة والقائمين عليها، وكيفية خلق جو تنافسي سليم يزيد من الانتاج ويحفز على الابتكار، والمهرجانات والملتقيات كما جاء في أجوبة الضيفين معا هي ضرورة لابد منها في ظل غياب البديل، وختاما نرى بدورنا أن مهرجان الفيلم الوثائقي هو جزء من فعل سينمائي عريض ومتحضر يرمي الى استحضار جنس سينمائي معين ظل مغيبا ومهمشا لعقود طويلة. نشكر الضيفين معا كما نشكر الطاقم الخفي للمهرجان وعلى رأسه الأستاذ حسن مجتهد ونثمن جهوده المتواصلة في بناء هذا الصرح الثقافي والفني. أجرى الحوار:فؤاد زويريق خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفاد