استطاع فيلم (دوشة) للمخرج الفلسيطيني فايق جرادة ان يرسم بإتقان صورة درامية للمعانات اليومية التي يعيشها سكان غزة من خلال التركيز على عنصر واحد وربطه بالأوضاع المأساوية العامة التي يتخبط فيها القطاع، فمشكل انقطاع الكهرباء المستمر يحوله إلى مدينة لا تنام بفعل ضوضاء مولدات الكهرباء التي تستعين بها الورشات والمحلات والمقاهي و... فيلم (دوشة) تمدد داخل الأجواء الخاصة لأشخاص معينين من سكان غزة حتى يقحمنا داخل الأجواء العامة التي تعيشها هذه المدينة وقد لامس حقيقة هذا الواقع بفعل التنقل بين مشاهد داخلية وأخرى خارجية مرفقة أحيانا بحوارات ثنائية أو جماعية تنصب كلها حول التيمة الخاصة بالفيلم، والهدف أو النتيجة المتوخاة من هذه الأحداث المتسلسلة هي بناء مشهد عام يظهر البنية الهشة التي ترزح تحتها هذه المدينة. لكن للأسف الشديد نجد أن عنصر الحوار لم يتفوق نسبيا - عكس التشخيص - في إبلاغ المتلقي إلى ما كانت تصبو إليه فكرة الفيلم ورؤية المخرج، ولابد من الإشارة هنا إلى أن فيلم (دوشة) يدخل ضمن الإطار الديكودرامي، هذا الإطار الذي يعتمد بالأساس على المزج بين الوثائقي والدرامي، وإعطاء الممثل فضاء أوسع يمكنه من التفاعل المباشر مع الأحداث دون تصنع أو تخطي الواقعية التصويرية حتى يشعر المشاهد بصدق التشخيص وبالتالي التفاعل معه إلى درجة التماهي، وهذا هو الهدف الرئيسي من مثل هذا النوع من الأفلام الوثائقية التي تعمل بطريقة أو بأخرى على التأثير على جمهورها وتدفعه إلى الإحساس بصدق أحداثها واستشعار رؤية مخرجيها من منظور واقعي بعيد عن خيال الأفلام الروائية الشيء الذي يدفعه -أي الجمهور- إلى تحليل محتواها تحليلا عميقا ومتأنيا مع ملامسة الواقعية الصادقة في مجريات أحداثه. بعيدا عن الحوار لعبت الشخصيات دورا كبيرا في معالجة التيمة الرئيسية للفيلم واندمجت فيما بينها بأريحية تامة، ومما لا شك فيه أنها فرضت قيمتها على الأدوار المنوطة بها بما يتوافق ودورها في الحياة فهؤلاء الممثلون هم أبناء المنطقة يعيشون روتينها اليومي ومشاكلها المعقدة، الشيء الذي دفعهم إلى إتقان دورهم دون الاصطدام به و بالتالي دون الابتعاد عما قد يترتب على ذلك من تحولات قد تسيء إلى عمق الفكرة. الضوضاء... والضوضاء... ثم الضوضاء... هذه هي فكرة الفيلم الرئيسية وهذا ما نستشفه من عنوانه (دوشة) أي ضوضاء. لكن هذه الضوضاء ليست كأي ضوضاء، فالضوضاء التي يتناولها الفيلم تتركز في القطاع ككل ولا مجال للهروب منها، وهذا ما حاول الزوجان تشخيصه ابتداء من البيت وانتهاء بالبحر مرورا بالشارع والمطعم، هي إذا ضوضاء مزعجة لا تكتفي بتعكير صفو الحياة اليومية التي يعيشها السكان، بل تتعداها إلى الصحة الجسدية والنفسية، وقد تساهم كذلك في خلق التوترات والمشاحنات بين الأشخاص. يعيش قطاع غزة كما يعرف الجميع أوضاعا صعبة بفعل الحصار الإسرائيلي، الشيء الذي عمق خطورة الأوضاع الإنسانية والاجتماعية والمعيشية... داخله، وجعله يعيش مرحلة الاحتضار بفعل تكالب الأشقاء والأعداء عليه ، وكل هذا نعيشه نحن البعيدين عبر وسائل الإعلام المتنوعة التي تجتهد يوميا في نقل الأحداث من مستشفيات القطاع أو من مستودعات أمواته... لكن فيلم (دوشة) حاول الابتعاد عن هذا كليا وتبنى فكرة مغايرة تماما تتغلغل داخل أعماق الغزي وحياته اليومية التي تصطدم بشكل روتيني وممنهج بواقع مرير وأليم يسلب منه ابسط حقوقه ويدخله دائرة لا تنتهي من المعاناة، ثانية بثانية، ودقيقة بدقيقة، وساعة بساعة. لاشك أن المخرج فايق جرادة اجتهد حتى يكون فيلمه مميزا ومتميزا بفكرته وأجوائه ... وحاول بذلك وضع أصبعه على حقيقة الوضع المؤلم الذي تعاني منه غزة وساكنتها، وهذا ما عايناه من خلال مشاهدتنا للفيلم. فمن خلال تجاربه المتنوعة في التلفزيون الفلسطيني تفوق فايق جرادة في إدخال بصماته الخاصة على فيلمه هذا، وأحاط برؤيته من كل الجوانب حتى تكتسب قوة الإلقاء وتخاطب المتلقي بعفوية تامة وتعمل على إقناعه بصدقها وجدية قضيتها، وقد نجح المخرج فعلا في ذلك وجلب انتباه الجمهور إلى مجال رؤيته تلك، من خلال استعمال بعض اللمسات التقنية والفنية رغم بساطتها، لكنها ذات تأثير عميق وإضافي، وهنا نشير على سبيل المثال إلى ابتعاده الكلي عن الموسيقى التصويرية والاكتفاء بضوضاء المولدات حتى يمكن المشاهد من الاندماج والإحساس بالمعاناة نفسها التي يعاني منها الغزي ممثلا في شخوص (دوشة). قد نذهب في تحليلنا لفيلم (دوشة) ابعد من هذا ونعطيه طابعا رمزيا عبر ملامسة الجوانب الخفية والدلالات الإيحائية التي تظهر من خلال سيرورة الأحداث وتلاحقها من البداية إلى النهاية فتوظيف الصور الرمزية وتكثيف حمولتها عرى الوجه الآخر الذي تعاني منه غزة دون التطرق إليه مباشرة، فما الضوضاء والغازات ... التي تنبعث من المولدات الكهربائية إلا صورة مأساوية لرائحة الحرب التي أزكمت أنوف الغزيين وأصابتهم بعدم الآمان والاطمئنان، فأضحوا يبحثون عن أماكن تقيهم شر هذه الأوضاع غير المستقرة، إلى درجة عدم الإحساس بالأمان داخل بيوتهم نفسها مما دفعهم إلى الانتقال من مكان إلى مكان دون جدوى ليصطدموا في الأخير بالبحر الذي يرمز بأمواجه المتلاطمة بين مد وجزر إلى عدم الاستقرار كذلك، وقد يفسر من ناحية أخرى على أنه الملاذ الوحيد المفتوح على الأفق في ظل حصار أغلق كل منافذ القطاع فأصبح عبارة عن غرفة معزولة عن العالم الخارجي وما البحر إلا نافذتها الوحيدة الضيقة التي تمنحه فرصة وأملا في الحياة رغم كل شيء. يذكر أن الفيلم شارك في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بمدينة خريبكة المغربية. فؤاد زويريق خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة