أعادت القناة الثانية لمحطة ال"ام بي سي" عرض ثلاثية العراب الشهيرة مدبلجة هذه المرة باللغة العربية المحكية(باللهجة الشامية!) وقد استمتعت بمشاهدة الجزء الاول وكأني اشاهده للمرة الاولى ، فبعض الافلام تصبح كالتحف اوالسيمفونيات الموسيقية الخالدة لا يمل المرء من اعادة مشاهدتها أو سماعها ، وقد قادني حماسي هذا لاعادة مشاهدة فيلم رائع "مغمور" لمارلون براندو لم يحظى في حينه باهتمام النقاد ، ربما لأنه كوميدي –ساخر ! حيث يبدو أن شخصية العراب "دون كوروليوني" الشهيرة ستبقى موجودة سينمائيا كما تم تقليدها في العديد من الافلام . يقوم مارلون براندو هنا باسترجاع دوره بشكل ساخر مؤثر يجعلك تحن لهذه الشخصية الاجرامية الكاريزمية الطاغية التي ظهرت في العراب قبل حوالي عشرين عاما من ظهور فلم المبتدىء (The Freshman)والتي أبدع في ادائها ونال عن دوره الاوسكار . لكن الشخصية الجديدة عصرية وطريفة ، أكثر انسانية ، أقل اجراما وأكثر ثقافة ومهارة ، وتتمتع بقدرات متميزة وقادرة (كالعادة)على جمع الأموال الطائلة بواسطة تجارة مبتكرة وهي تهريب الحيوانات المنقرضة ومن ثم اطعامها للا ثرياء مقابل مبالغ طائلة ، وهي كما عرفناها شخصية ذكية وذات دهاء ونفوذ كبير. فسابتيني المافيوزي الجديد مازال يقدر الاخلاص والوفاء والصداقة ، ويعشق البراءة لأنه نقيضها...هكذا يستغل الشاب "المبتدىء" القادم حديثا الى نيويورك من أجل دراسة السينما ، ويصطاده بمهارة تامه ليؤدي له خدمة نادرة مقابل مبلغ من المال يعادل المبلغ الذي سرق منه أصلا بواسطة أحد أقربائه (كوسيلة لابتزازه) ! وتنحصر مهمة الشاب في نقل العظاية النادره (وهي واحدة من أصل ثمانية متبقية في العالم) والتي سرقت من احدى الجزر الاندنوسية ، وذلك لنقلها لحديقة حيوان غير رسمية يديرها "تاجر حيوانات نادرة" ومهووس (مكسميليان شل) ، حيث نلاحظ أن الحيوانات النادره قد حشرت في أقفاص ضيقة وذلك بانتظار دورها لتتحول لولائم "فخمة" يفترسها أثرياء(لم يتعبوا بالتأكيد في جمع ثرواتهم) ! وحيث يحولها طباخ ماهر لأطباق شهية مقابل 350 ألف دولار للطبق الواحد (كونه مكون من حيوان منقرض نادر) والشرط أن تقدم النقود فورا وكاش وتجمع في سلة خاصه. وتتشابك خطوط القصة حيث نكتشف أن هؤلاء الذين يلاحقون الشاب وسباتيني والطباخ ليسوا من الأمن الفدرالي ، كما أنهم ليسوا من الحريصين على البيئة وحيواناتها المنقرضة وانما يعملون لجهة منافسة لسباتيني . وهكذا تنتهي القصة كما انتهت في فلم الخدعة (لبول نيومن) حيث يدور عراك يسقط فيه "سباتيني"صريعا برصاص الشاب البريء ثم وبعد أن يغادر هؤلاء مذهولين ، نكتشف أن المسدس محشو برصاصات كاذبة ! هكذا تنجو العظاية النادره من مصيرها المحتوم (بفعل هذه الملابسات) ، ويقدم المطبخ الشهير بدلا منها طبقا من الدجاج العادي مقابل أل 350 الف دولار ، حيث تنخدع نخبة المجتمع المخملي الراقي بالتهام الطعام بشهية كبيرة على أساس أنه لحم حيوان منقرض ! يغلب على الفيلم طابع الكوميديا الهادفة والسخرية الطريفة اللاذعه ، فالفتى البريء تم "اصطياده" ببراعة ليصبح ايضا زوجا لبنت سباتيني التي وقعت في حبه من أول نظرة ، وللانطباغ الممتاز الذي تركه الفتى في ذهن أبيها المافيوزي المتقاعد . وتبدو شخصية العراب مهيمنة على السيناريو ، فاستاذ السينما لا يتحدث الا عن أفلام "العراب"كنموذج للعمل السينمائي النموذجي ، وحتى قبلة الانتماء التي طبعها العراب على وجه الشاب البريء (ماتيو بروديرك) لا تختلف كثيرا عن قبلة مايكل كوروليوني (آل باشينو في الجزء الثاني) تجاه أخيه الاكبر قبل ان يقرر قتله والتخلص منه ! والفيلم فيه تداعيات لدور براندو في "آخر تانغو في باريس"، حيث نراه يرقص بمهارة على الجليد بنفس الطريقة الاستعراضية التي رقص فيها في الفيلم الشهير! انه فلم ممتع ومدروس جيدا ويصلح كنموذج تعليمي لكتاب السيناريو العرب اللذين لا يفرقون بين التهريج والكوميديا الهادفة! والفيلم يطرح موضوع التلوث البيئي وحماية الحيوانات المنقرضة باسلوب جذاب وساخر ، فهذا الذي يصطاد الحيوانات النادره ليقدمها وجبات شهية باهظة الثمن يشكو من تضاؤل طبقة الاوزون الجوي ! كما أن براندو ينجح هنا في تقديم شخصية مركبة ، فهو يجمع بين النمط النموذجي "للمفيوزي المسن" ، الشخصية التقليدية التي تطبخ الصفقات وتحيك المؤامرات في زاوية مظلمة من مقهى ايطالي قديم في نيويورك ، وبين الشخصية العصرية المرهفة اللتي تتابع حركة الاسهم وتركب أحدث السيارات الرياضية وترقص على الجليد بلياقة نادرة وتدير مطعما راقيا للطبقات البالغة الثراء وحتى أنها تتذوق الشعر! وفي هذا السياق وحتى لا نظلم الممثلين العرب فقد قدم الممثل المصري "محمود عبد العزيز" نمط الزعيم (المفيوزي المصري) بكثير من الابداع والخصوصية بل وأضاف لها بعد ديني استعراضي "نادر" ولكنه واقعي ومزجها "بهيستيريا" اجرامية متميزه في فيلم "ابراهيم الابيض"، وقد تنبه لذلك ناقد ايطالي شهير ونوه بابداع "محمود عبد العزيز"، ولكن الكم الهائل من الاكشن (الغير مبرر) والاجرام المجاني في الفيلم المذكور أضاع للاسف دور "عبد العزيز"وهمشه ! في الخلاصة فان منتج الفيلم ومخرجه (اندرو بريجمان) وبراندو قد اتفقوا على استغلال النجاح الكاسح لشخصية العراب ، وقدموها في اطار عصري مرن يواكب العصر وشجونه ، فبالرغم من مرور حوالي عشرين عاما على انتاج هذا الفلم الا ان موضوعه ما زال حديث الساعة ومؤتمرات البيئة تتوالى محذرة عالمنا الاستهلاكي المجنون ! والطريف أن "العظايه" قد لعبت دورا ملفتا جذابا ، ويقودنا هذا لاهتمام "هوليوود" في التركيز على اظهار الحيوانات الاليفة والغريبة (بأنواعها) وتفاعلات وجودها مع الشخصيات البشرية في عدة افلام عادية أو كرتونية ، من منطلق احترامها لدور هذه الحيوانات واندماجها في تفاعلات الحياة البشرية العصرية عكس ما نشاهد في الافلام العربية عموما حيث يبدو وجود الحيوانات مغيبا تماما ! لقد استمتعت تماما بمشادة هذا الشريط السينمائي الساخر المتقن ، وهو يؤكد أهمية محافظة الفنان على سمعته وانتقاءه للموضوعات الانسانية "التفاعلية" الرفيعة المستوى وبعده عن الهبوط والابتذال . مهند النابلسي