تعتمد السينما على الجسد الإنساني والصورة لبناء لغتهاوأداوات تصريفها. مرت الصورة الفوتوغرافية من مرحلة الثبات إلى الحركة مع أنظمة المونتاج، كما أنتقلت الصورة السينمائية بدورها من الصمت إلى النطق حيث كان على الممثلين أن يجهدوا أنفسهم لإفهام الجماهير من خلال الحركات الجسدية وإيماءات البانتومايم. يتكلف مديرو اختيار الممثلين والممثلات بأدوار طليعية في إسناد المهام لشخصيات مشهورة ذات باع طويل في التمثيل ولكومبارس يكتفي بالظهور على الشاشة.من ثمة ظهر ما يعرف بالشخصيات المركبة والشخصيات البسيطة . عادة ماتنطلق الأدوات الفيلمية من فكرة تعبر عن مشاعر وتعكس مجموعة من القضايا.يكون بالإضافة للوسيط البصري حضور الأجساد أمرا حتميا.هاته الأجساد التي يوكل إليها الاضطلاع بتجسيد الأفكار فنيا تتحمل مسؤولية جمة من خلال التفاعل مع الحالات والوضعيات الإنسانية التي ستتقمص أدوارها أو تلعب الدوبلاج لتمثيل أدوار كائنات حيوانية في بعض أفلام الكارتون أو التحريك. قد تسقط بعض الأفلام في برودة أدوار ممثليها وتكون غير قادرة على اللعب بالمشاعر وبالطاقة التعبيرية للجسد أو سخونتها المفرطة من حيث الانفعال الممسرح والكاريكاتوري.نقول حينئذ أن الممثلين لم يرقوا إلى مستوى الفيلم من حيث تبني قضاياه ومناخه السيكولوجي وهو ما يسجل على كيفية إدارة الممثل . بالمقابل يكفي حضور جسد نجمة سينمائية لتحج الجماهير بالمئات إلى شباك التذاكر.الصور السينمائية تحببنا من خلال المؤثرات البصرية كالإضاءة والألوان لشخصيات دون أخرى.كما أننا في الحياة اليومية نميل لشخصيات دون أخرى.نميل مثلا للشخصيات ذات الكاريزما التي هباها الله بالقبول وحسن المعاشرة والكلام المعسول،الشخصيات ذات الوجه البشوش والابتسامة العريضة التي تملك القدرة على الإنصات لنا أو مخاطبة مشاعرنا. تم في علم النفس التقليدي تحديد ملامح الشخصية الإنسانية من خلال الطباع كالطبع الناري والترابي.كما حاول هذا العلم أن يعكس الطبع من خلال ملامح الوجه كالوجه الدائري والوجه الطويل،أو من خلال شكل الأنف كالمفرطح والمقوس الرقيق، أو من خلال نوع الجبهة التي تكون إما عريضة أو ضيقة ولكل مدلولها . يستند المخرجون أحيانا في اختيار الممثلين لتقديرات تكون جسمانية في الأساس وصوتية في المرتبة الثانية.الجسد الصامت بقامته وألوان لباسه وبشرته عيونه يقدم نفسه إلينا قبل أن ينطق بكلمة.العين إذن تسقط في الحب أو في النفور قبل الأذن، وأحيانا العكس تماما. كان الجسد محور الديانات والفنون على حد سواء.ومثل ملتقى الفلسفات، بل هناك من ذهب إلى اعتبار الجسد الإنساني كمطلق للجمال وللكمال.منه تبدأ وإليه تنتهي البشرية .لذلك يلاحظ كيف أن الصورة اشتغلت على الجسد كمسند طبيعي وثقافي. ظل الجسد هو العابر بامتياز لكل الأشكال التعبيرية والفنية سواء كأداة لإستلهام الواقع أو كموضوع للتصوير من أجل تمرير هواجس وانشغالات الإنسان في الدفاع عن النفس أو الترويح عنها عبر اللعب أو الترفيه أو الحروب وفنون القتال التي تطورت في المجتمعات الشرقية بآسيا تحديدا. لماذا الصورة إذن ؟ إنها اليوم تقوم بمهام إحلال معبد كهنوتي جديد يؤم إليه حجاج العالم للتلذذ والتجسس والعبادة وتغذية مشاعر ما. لماذا الجسد إذن ؟ إنه الإيقونة الدالة على الحياة ومساحة الفردانية والتحرر من إكراهات كل السلط وما يجرنا نحو ثيمات مؤرقة كالموت. لماذا السينما إذن ؟ إنها الوسيط المفعم بالحيوية ومرآة أحلام ملايين من البشر،كما أنه الصناعة التي تروم تشكيل المتخيل الجمعي ،وترويج الأنماط الثقافية وتشويه العدو وترويج الإقتصاد. إذا جمعنا كلا من الصورة والجسد والسينما سنكون أمام مثلث معقد ومتشابك تتدخل زواياه باستمرار في تشكيل عالم من المؤثرات البصرية والصوتية والتي تقدم حضارة اليوم للإنسان المعاصر، وتكون بالتالي شهادة حية للذاكرة البشرية جمعاء.مثلث هيكله الجسد ببلاغة إيماءاته ورمزية ممارساته ، لغته الصورة ببعديها الفوتوغرافي والتشكيلي،وروحه السينما بمكوناتها التركيبية وسحرها الخلاب في إعادة خلق العالم وفق رؤى تعكس هواجس الإنسان المعاصر وعلاقاته بمستقبله . عندما يتكون للذات الإحساس بأن العالم ليس إلا ما هو ماثل أمام عينيها بكتلته الصماء في الهنا والآن،حيث لا عمق ولا بعد له،أو أنه مجرد طرف في علاقة أفقية،يترسخ لديها الاعتقاد في أسطورة الإشباع والامتلاء. من ثمة، يجد الجسد، لا بل حتى الروح،ملاذهما في ميتافيزيقا التقنية واستهلاك اللذات المعولمة.لذا فإن تفضيل الأجوبة المنمطة والجاهزة على حساب إثارة الأسئلة المقلقة قصد الوصول إلى الحقيقة هو تمجيد ضمني للتقريري والحرفي في قراءة أي خطاب سواء كان سمعيا أم بصريا. انه احتفاء غير معلن بالعقلية الوضعية الخائفة من سقوط الذات في لولبية المعاني.يشكل هذا المنحى الأخير،بكل امتياز،تسطيحا للفكر وتكبيلا للتخيل بدعوى انه ليس هناك إلا معنى واحد،وبالتالي تفسير واحد لظواهر العالم وحيثياته.ومرد هذا حسب اعتقادي،إلى كارثة وسائل الإعلام الشعبوية التي تؤدي إلى كسل العقل وخمول الإرادة في فهم ما يحيط بنا من أشياء ومشاعر وأفكار. وبالتالي، يتم إيهام الفرد أنه لم يعد في حاجة إلى حالة الدهشة الأولى كما يتجلى ذلك في علاقة الإنسان بالطبيعة،أو علاقة الطفل باللغة مثلا.لقد علمتنا وسائل الإعلام انه ما من حاجة تدعو للاجتهاد بغية الغوص في تلافيف المعطيات أو خلفيات التأويلات،فكل شيء يقدم لنا جاهزا بل عليه حتى قليل من الصلصة والمايونيز. بسبب هذه الثقافة،كلما وقفنا أمام صورة،أو ملصق أو لقطة ما فلن نقوم بالتقصي لفك الرموز واصطياد المعاني،بل سنكتفي بجمعها بالجملة وكأنها عائمة على سطح الصورة.كما أننا لن نكون في موقع يؤهلنا لتشغيل طاقتنا التأويلية أو إلى التبصر كمجهود تأملي.لهذا يلاحظ كيف أن الفن التجريدي جاء كمعركة من أجل دفع المشاهد،كطرف فاعل في تكوين المعاني ،إلى تشغيل أحاسيسه وإدراكه بل حتى حدسه عوض الاكتفاء بمرجعية التصنيفات المقننة من طرف الجماعة كقطيع. يواجه مشاهد اليوم نوعا من التحدي،ويصاب بالريبة نتيجة التشويش الممارس على أساليبه المنمطة في الفهم.لقد تراجعت الرغبة الطبيعية لكل من العقل والعين في فهم كل شيء ،وباتا ينساقان مع كل هيكلة تكرس السائد والمتعارف عليه. نؤكد هنا من جديد على الطابع السوسيولوجي والسيكولوجي لوسائل الإعلام في تشكيل ونحت مستويات إدراكنا لصور العالم وأحداثه.لقد أصبحنا نتصور أن كل شيء بسيط وليس هناك شيء مركب أو بعيد.ومن هنا يتم قولبة الفهم وتسييس البنية الذهنية والنفسية للمشاهد، لأن الذات المهزومة اجتماعيا وثقافيا تجد راحتها في اجترار ما هو ثابت وتكرار التاريخ. رب قائل يدعي أن الصورة معطى جاهز،وليس لها أي مدلول دفين لأن قصديتها بارزة للعيان،ووحداتها الثلاث (الزمن،المكان،والحدث) لا تاريخية لها،أو أن أفق انتظار الرائي من حيث توقع ما سوف يحدث معدوم.لأنها بخلاف الحكاية،كخطية سردية،لا تأسر المشاهد أو تدفعه لإعادة النظر والانتظار.صحيح أن للصورة الفوتوغرافية،أو أية صورة ثابتة،صراع يومي مع الزمن لأنها محرومة من عنصري التتالي والاستمرارية. كما أنها تواجه منافسة شرسة من مثيلاتها في شتى بقاع العالم.لكن هل هذه المعيقات تحرم الصورة من إحالة المشاهد على ماض ما كان واقعة،أو ضرب من ضروب الخيال الجامح؟ أليست الصورة قادرة على مصاحبة الذات في أدق تفاصيلها؟أم أن ما يوجد على الصورة هو هو فالطاولة هي الطاولة واليد هي اليد ولا داعي للدخول في مغامرة التأويل؟ ألا يسكن الشيطان في التفاصيل الدقيقة؟ إن العالم يسير بوتيرة سريعة جدا.ومن هنا تبرز الحاجة للبطء في التعامل معه لإدراكه في كليته،أو كما قال بارث "اقرأ ببطء تقرأ الكل".فهل الصورة الثابتة تنفرنا بسبب ما تولده فينا من قنوط،أم هو مجرد هروب من الارتكان للطبيعة الميتة.وهل هذه الأخيرة لا قدرة لها عن التعبير؟ لعل خشية الإنسان من الملل والرتابة هو ما يدفعه لعدم الوقوف على خلفيات الظواهر.فهل أننا,دائما حسب بارث،نسعى إلى تحقيق اللذة عبر التطلع لما هو جديد؟ وتأسيسا على ما سبق،يبدو أن الفن الصوري والحركي على الخصوص قد هيمن على الإنسان المعاصر وحوله عن طريق التعود إلى آلة لاستهلاك الصور الناطقة،وكأن الصور التي لا قدرة لها على التخاطب لا شرعية لها في الوجود بين هذه الآلهة الجديدة . عزالدين الوافي