تم تداول الطابع التجريبي في كل من السينما والأدب من خلال مجموعة من التسميات المتعددة كالطليعية أو الثورية، وأحيانا السينما أو الأدب الصافيين أو الفنية وحتى الشخصية على اعتبار أن روادها من كتاب وسينمائيين يختارون مسلكا خاصا بهم سواء من حيث الأعراف والتقاليد الثقافية والاجتماعية، أو من حيث سبل الإبداع والإنتاج. وهم بالتالي يتكيفون مع معايير خاصة بهم تشكل نشازا بالنسبة للطرق الفنية والتقنية السائدة. التجريب: غوص في التكوين لعل هذا الهامش والرؤية المتحررة للأشياء هو ما يحتاجه السينمائيون/ الكتاب التجريبيون لممارسة جنونهم بكامل حريتهم متجاوزين كل القوالب الجاهزة والنمطية في تناول الظاهرة الإبداعية. ولا شك أن توجها كهذا يستوجب هذا النوع من الجرأة في تجريب مفاهيم جديدة على أشكال التعبير السينمائي/ القصصي . إن تنوع المشارب والخلفيات في إدراك الخاصية التجريبية وطرق التصوير والعرض واستعمال خليط من المقاسات والأدوات يجعل حصر هذا الاتجاه من قبيل المستحيل.ما يزيد الطينة بلة هو جهل الجمهور بهذا النوع من المفاهيم بل حكمه عليها المسبق ورفضه لها لكون روادها يشتغلون بطرق بدائية تقتبس من الفنون التشكيلية والتصوير الضوئي والأشكال التعبيرية الأخرى كالحكاية والحكم والربورتاج والتصوير الفوتوغرافي العديد من أشكالها ومواضيعها. فهم يتناولون لغة الصور أو لغة الحكي بطرق تختلف عن تلك التي تعودنا عليها من خلال التلفاز وشاشات العرض الكبرى أو من خلال القواعد الكلاسيكية في تقديم القصة . من مواصفات الفيلم/ القصة إن السينما/ الأدب التجريبيين بطبعهما وفي عمقهما أدوات تعبيرية تربك طرق إدراكنا لأنها تخلخل وحدات الزمان والمكان، كما أنها لا تخضع لوحدة سردية معينة بحيث تقلب الموازين وتتحدى المشاهد/ القارئ بل تجره جرا للانغماس في مقاطع شذرية تشوش على الحواس لمجموعة من الاعتبارات لكونها: تنطلق من أحقية المبدع في التعامل مع مادته وفق منطق لعبي حسب مفهوم بارث للكتابة إنها سينما تؤمن بل تدافع عن منطق تداخل الأجناس التعبيرية الفن التشكيلي الموسيقى الشعر نموذج جان كوكتو ،جاعلة من مساءلة الوسيط السينمائي منطلقا وهدفا في حد ذاته. ترى أن من واجبها أخلاقيا وأيديولوجيا، أن تظل وفية لقيم التغيير وعدم الارتكان للنظرة الجامدة في التعامل مع الحياة. لذلك نلاحظ ميلها لتجديد أدواتها في الشكل الذي يعتبر حاملا للدلالة. لقد عبر عن ذلك السينمائي الروسي دزيغا فيرتوف من خلال بيان أسماه " سينما العين". إن السينما التجريبية تحاول أن تكون تعبيرا عن الهامش سواء من حيث اختيار سبل تقديم مادتها صوتا وصورة وتركيبا،أو من حيث جعل المضامين حاملة لقيم سياسية تتجاوز النظام الاجتماعي السائد.وبالتالي فهي ترى في نفسها القدرة على أخذ مسافة جمالية وفكرية لخلق قيم بديلة كالاستقلالية وكسر الطابوهات، وأنماط المشاهدة ،كما أن غايتها ليس تقديم أو سرد حكاية قريبة من الواقع أو تسجيل حدث على منوال السينما التقليدية. عادة ما تكون الأفلام التجريبية بالأبيض والأسود ولا تتعدى أكثر من عشر دقائق.ويتم مثلا اللعب على سرعة العرض،أو حجب عين الكاميرا بشريط لاصق أو ورق مقوى يتم خرقه بطريقة ما بغية خلق عالم شاعري يتلاعب بالدلالات والإشارات.إنها تفكر في أسلوب العرض قبل أن تفكر في السينما كرسالة. "إن فكرة التجريب تنفتح على آفاق سينمائية متعددة سواء أخذناها كاكتشاف لتقنيات جديدة أو كاستعمال شعري وشكلي يجاوز تقاليد المشاهدة والأنواع السينمائية المعروفة.إن التجريب يصبو للتشويش على الرؤية فارضا نظاما أسلوبيا مختلفا يتطلب قراءات متجددة يفترض أن يكون فيها المشاهد نشيطا في إعمال مخيلته وآلته التأويلية". نسوق هنا لعبة الكلمات المتقاطعة كمجال مجازي للإحالة على مفاهيم قد تحضر في العالم التجريبي للإبداع السينمائي كالمنطق الاستبدالي أو القلب أو تعدد المعنى وتكثيفه أو القراءة العمودية والأفقية وقد نستحضر أشكال أخرى من اللعب بالكلمات وأحيانا أخرى بالأرقام.
مع شيوع الكلمات المتقاطعة في جل المقاهي والمؤسسات،وإدمان البعض عليها لممارسة رياضة ذهنية ولغوية وذلك بمشاركة أكثر من شخص، أليست الدعوة لقراءة الفيلم بمثل هذا الشغف الجماعي، الذي قد يتمناه كل غيور على الإبداع السينمائي، من صميم نشر وتداول الثقافة السينمائية كما لو كانت ثقافة جماهيرية؟ من هذا المدخل نود النظر للفيلم مستخدمين هاته الاستعارة للتركيز على البعد اللعبي؟ الممارسة الفيلمية / القصصية كلعب اعتبر العديد من الفنانين مسار الإبداع كلعب بالصور وبالكلمات كما في الشعر مثلا أو بالأحجام وبالألوان والحركات كما في الفن التشكيلي والنحت نموذج ميرو في اسبانيا.وذهب البعض الآخر إلى النظر للعمل الفني كعملية تلذذية يحضر فيها جانب اللاوعي كفرويد بشكل أكثر حدة.غير أن هذا المنظور لا يبعد عن اللعب خضوعه لنوع من القوانين والحدود التي تضفي عليه طابع المعقولية ، وبالتالي لا تسقطه في أتون الفوضى مثل مسرح اللامعقول. ويمكننا استحضار النفس التجريبي من خلال الإحالة على التجربة الأمريكية في الخمسينات عبر أفلام أندي وارهل الذي صور رجلا ينام لمدة تزيد عن ساعتين،وتجربة حركة السرياليين التي قادها كل من لويس بونويل وسالفادور دالي وذلك عبر فيلم الكلب الأندلسي الذي أطلقا فيه العنان لهوسهما وسادية مطلقة في استفزاز المشاهد وتقززه مصورين مثلا كيف تقطع موسى عين. إذن يتحدد مفهوم اللعب من خلال تلك الرغبة الطفولية في خلق عوالم موازية تتحرر فيها الذات والفكر من عوائق الزمن وكل القوالب والقوانين المنمطة .فاللعب عملية تطهيرية سواء من حيث كسر قواعد الآخرين أو خلق بدائل تكون فيها هوامش الحرية والتحرر أرحب وأوسع. لقد أبرز هذا التفسير الطابع الذاتي للإبداع معتبرا الخلق الفني كتجربة شخصية متحررة من كل إملاء خارج حدود التجريب والمخاض الروحي، أو في أقصى الحدود الالتزام بأي منظور سياسي أو أيديولوجي ما. من هنا يمكن فهم التجربة الفنية التي لا تتطلب بالضرورة من المشاهد فهما بالمعنى الفزيولوجي للكلمة يقوم على بناء محور مفاهيمي وقصدية ونستحضر هنا مفهوم الغموض في النص القصصي ، وإدراك ينتقل من الدال إلى المدلول مرورا بعملية المشاهدة والتركيب ثم الاتفاق على مدلول متداول لا خلاف حوله،بل تفاعلا وجدانيا يمر عبر الأحاسيس ليصوغ تجربة ذاتية تتنوع بتنوع الذوات والخلفيات والتأويلات. وبالنظر للعمل الفني كخلق ذاتي، فإن إسقاطه ضمن التفسير الدغمائي الوحيد سيحد من توقه لمعانقة حدود أبعد سواء للذات المفسرة ،أو لأدوات تفسيرها المنتمية بالضرورة للغة ذات معجم وتداول معينين . وإذا كانت التجربة الفنية في تقديري هي تجربة يتداخل فيها الوجدان بالعقل والحس بالحدس،فإن إخضاعها لمنطق التفسير المعياري سيفقدها بعضا من صوفيتها وغموضها، وبالتالي يحولها في نهاية المطاف إلى أي منتوج سلعي أنتجته الآلة من دون المرور بالدم والعظم. دور المشاهد في بناء عالم الفيلم أنيس الرافعي جوابا على سؤال محمد المعتصم أعتقد أن هذا الإصرار على الاختلاف ، ما دمت مبدعا يلوح بكونه يحمل مشروعا حداثيا له صلات ووشائج وطيدة بالأزمنة والمتغيرات التي يعرفها عالمنا المعاصر والتي أفضت لولادة “القاص السبرنطيقي” أو ما يسميه الصديق القاص محمد اشويكة ب “التكنو- قاص”. هذا الذي يمثل النوعية بدل الكمية والتكنيك بدل الفطرة. كما أنه من غير المعقول أو المقبول أن أكون منتميا بحذافيري لألفية جديدة ترفل وتمور بسياقات عولمية مرعبة وبثورة جهنمية للاتصالات الحديثة، وأكتب وأعبر عن ذاتي وعن الآخرين وعن العالم بمرجعيات سلفية أو ماضوية تعود القهقرى إلى زمن سابق انقضى وولى من غير رجعة. نخلص الآن لدور المشاهد/ القارئ في إعادة بناء القصة انطلاقا من إشارات بصرية وسمعية ويمكن إجمالها فيما يلي: الوصف المشهدي المونتاج التخييلي وهو بمثابة دعوة لاستثمار ما يقدمه الفيلم/ القصة من إشارات بصرية وإحالات على أصوات تقرأ وتسمع ثم إعادة بنائها الترتيب الدلالي بهدف التحرر من الزمن الخطي وخلق القصة وفق المحاور الكبرى بكسر الوحدات المعروفة إكمال وملء الفراغات بحيث أن الفيلم/ القصة ليس مجبرا على شرح كل شيء وتتحدد جماليته في إشراك المشاهد في إنتاج المعنى الرغبة في المشاركة اللعبية من خلال القبول بإضافة معاني جديدة ذلك أن كل رفض قبلي ومبدئي لمفهوم اللعب قد يدفع بالمشاهد للخروج منذ البداية من اللعبة التحرر من كل الإسقاطات والمفاهيم الجاهزة على اعتبار أن كل عمل فني يخضع لشروطه الجمالية والفكرية النظر للعمل/ الأدبي الفيلمي كهدم وكإعادة بناء وبالتالي يستلزم سواء من جانب المبدع أو المشاهد مجهودا فكريا قد يكون في غالب الأحيان مجرد تلذذ بصري/ الترقيم / الحذف / قد يولد مجموعة من الأحاسيس الغامضة يدعى المشاهد للعب بالصور واللقطات في عملية تلذذية تجعل من الفيلم/ القصة عملا تشاركيا. اعتبار العمل القصصي /الفيلمي كعمل مفتوح قابل لتعدد القراءات وهو ما يبعد عنه شبح المعنى الواحد المتجمد وبالتالي يتم إغناءه وفتح نوافذ أكثر على مساحات فنية وفكرية وثقافية . تخطي لغة الحكي المباشر ذات الطابع البياني البديعي الزخرفي التفخيمي مبدأ التذويت/ التفتيت/ شعرية العادي/ تدمير الواقعية/ الأسطرة / موت الأدلوجة/ الميتاقصة/ التقانة/ الجسد/ القصة المضادة/ / تشتيت الانطباع/ تضبيب المكان وانعدام الزمان/ استثمار الفضاء النصي/ المناجاة الباطنية/ الباروديا السوداء/ الشكلية/ اتخاد المساحة الورقة كحلبة لخوض معارك خاصة بالذات الشاعرة كما أنها ترجع – حسب راي الناقد الأردني المتميز محمد عبيد الله – إلى محاولة القصاصين امتلاك جغرافيا خاصة كبديل أو معادل موضوعي عن العالم الخارجي وعن غياب أحيزة مكانية وجغرافية حميمية في الواقع الفعلي. يقول أنيس الرافعي اشتغلت بمنطق التمارين الأسلوبية على حالات أنطولوجية ورياضية تعتمد تقنيات التأمل الفلسفي البسيط ولعبة المربكة (البازل)،. كما أنني سأواصل نفس النهج في مجموعتي القادمة التي ستكون عبارة عن سلسلة من الملاحظات التغريبية حول الأشياء: ملاحظات حول الجدران، والكراسي، والمراحيض، والعلب الليلية...إلخ. إن الغرض من طرح هذه الأفكار هو الانفلات من تلك القراءات الكلاسيكية التي تنظر للخلق الفني من منظور أحادي وأفقي، وبالتالي لا تسمح بالتجريب وركوب المغامرة الفنية لطرح رؤى مغايرة تتحرر من النمطي.إن مثل هذه القراءات تعيد إنتاج نفس الطرق في التعامل مع الفيلم/ القصة حينما تشرع للسهل على حساب الممتنع وللنمطي على حساب التجريبي كخرق لذهنية ثابتة ترفض النظر لذاتها من زوايا مغايرة. عزالدين الوافي • كاتب وناقد سينمائي من المغرب هذا البريد محمى من المتطفلين , تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته