أعتقد أن السينما المغربية كلما ارتبطت بمثيلتها الغربية تتخلص من هيمنة الخطاب الهاوي القائم على أسس غير احترافية، لا من حيث الكتابة والسيناريو ولا من حيث الإخراج والتقنيات المرافقة له، وهذا ما يجعلنا نؤشر إلى التأثير البارز على العلاقة التي تحكمنا نحن والآخر، وتدفعنا إلى استخلاص الأسباب والعبر من هذه العلاقة ومحاولة الاستفادة منها، وممارستها كمنهج تقويمي يعيد النظر إلى الإبداع المغربي الخالص، الذي من المفروض أن تؤسس لحركيته الهوية الوطنية بصيغة تكون بعيدة عن الهواية والارتجال. العديد من الأفلام السينمائية المشتركة نجحت وحققت العالمية رغم طرحها للقضايا المسكوت عنها في دول الشمال، ورغم تحريكها للخطابات الساكنة في هذه الدول، تلك التي تنقل ثقافة وفكر الآخر غير الغربي إلى عقر صالاته، خطابات عملت هذه الأفلام على بلورتها في قالب فني واحترافي، حتى تقوض ما دأبت عليه الآلة الإعلامية الغربية من تشويه للحقائق، وتترك بالتالي الباب مواربا لرياح التسامح والاعتدال، دون الدخول في المتاهات الزائفة وغير العادلة. فيلم الرحلة الكبرى للمخرج المغربي اسماعيل فروخي، واحد من هذه الأعمال التي أعطتنا بصيصا من الأمل في مخرجين ومبدعين مغاربة، حاولوا ويحاولون بكل جهدهم الفني عدم التورط في ديباجة رؤى فكرية غير خاضعة للتركيبة الصحيحة لهويتهم الوطنية والدينية، فيرومون إلى تحطيم حواجز الإذلال والتأثير المباشر وغير المباشر على مشاريعهم الفنية، ليؤسسوا بذلك خطابات بعيدة عن التصورات والتنظيرات الغربية السلبية. هي إذا مواقف ومبادئ تكتسي المشروعية الكاملة وغير الناقصة وتسعى من خلال هذه الأعمال إلى توعية الجانب الآخر غير المتفهم أو غير الواعي بالمنظومة الاجتماعية والدينية والأخلاقية و...التي تطبع نظيره بالضفة الأخرى المقابلة له. "الرحلة الكبرى" عنوان لفيلم طرح العديد من نقط الاستفهام حول العلاقة المعقدة التي تحكم الأب بابنه، خاصة في الظروف المشابهة التي تعيشها شخصيات الفيلم، علاقة تدخل في تركيبتها وحدات دالة تستند في تنظيمها وشرعيتها على مرجعيات اجتماعية وسيكولوجية ودينية... عنوان الفيلم يحيلنا إلى عدة دلالات متنوعة نأخذ منها دلالتين أساسيتين أسستا للأجواء العامة المكونة لأحداثه، أولا دلالة الموت باعتباره رحلة كبرى من الدنيا إلى الآخرة وما يتخللها من أحداث وتطورات تؤثر على مسيرتها من البداية إلى النهاية وهذا ما استشعرناه في الفيلم الذي انتهى بنهاية درامية (موت الأب)، أما الدلالة الثانية فهي دلالة روحية ترمز إلى الجانب الديني لدى المسلمين باعتبار الرحلة الكبرى لديهم هي الرحلة إلى الحج وهذا ما عايناه كذلك في الشريط. أحداث الفيلم ارتكزت على قوة الصراع النفسي الداخلي بين الأب وابنه، بين جيل وآخر، بين ثقافة وأخرى، بين هوية وأخرى...هو جدل غامض يتردد صداه داخل فرعين لهما نفس الأصل، وهنا تكمن إشكالية وعقدة الفيلم، وقد حاول المخرج تقييم هذه الإشكالية إما عبر الحوار المتشنج المتبادل أو عبر الحوار الصامت اللاذع مع الذات، وفي كلتا الحالتين نلمس مدى الهوة التي تفرق بين الطرفين. يمكننا بسهولة أن نتبين الرؤية العامة التي يتبناها الفيلم وذلك عبر المحطات المتعددة للرحلة من بدايتها إلى نهايتها، والمعتمدة على القاموس الواقعي للحياة، علما أن قصة الفيلم تنهل أحداثها من السيرة الذاتية للمخرج، وبالتالي فنحن أمام شخصيات اقرب إلى الواقع منها إلى الخيال. تظهر الأحداث من بدايتها انعدام التواصل بين الأب مصطفى (الممثل المغربي محمد مجد) وابنه رضا (الممثل الفرنسي نيكولاس كزال) وتكريس هذه الصفة في مخيلة المتلقي، ونلمس ذلك مباشرة عندما أمر الأب ابنه بمرافقته في رحلته إلى مكة ورد فعل هذا الأخير الذي صب جام غضبه على والدته عوض والده، وهنا إشارة قوية وواضحة لسلطة الأب داخل الأسرة المغربية، وهي سلطة تذهب إلى حد التسلط والديكتاتورية المقنعة حسب الفيلم.. تبدأ الرحلة لتبدأ معها العودة، عودة الابن إلى أصله وهويته، وعودة الأب إلى ربه ومغادرته للحياة، معادلة صعبة ترسم ملامح الشخصيات بواقعها المثير والأليم ، هذه العودة التي لم تبدأ مباشرة بل تحققت عبر مراحل تدريجية سمحت باستئصال كل الأورام الخبيثة من نفسية الابن الذي لم يفارق آباه طيلة الرحلة ليكتشف عن قرب شخصيته الإنسانية المتزنة، التي تحكمها القيم الدينية والاجتماعية المغربية رغم إقامته بفرنسا لمدة ثلاثين عاما. الابن متمرد لكنه غير عاق، يسكن فرنسا وتسكنه، يعيش ازدواجية مؤلمة، تتداخل في دائرة مغلقة تبعث على الشفقة والعطف، تتضح مساوئها في هذه الرحلة. وبتوجه غير مباشر من الأب يستخلص العبر ويستجلي الحقيقة التي من أجلها يسافر الأب، هذا الأخير الذي يرمز إلى الأصل وإلى الجذر المتأصل في العراقة المغربية، لا يجد نفسه متسلطا، بل بالعكس فهو يؤدي دوره الطبيعي كأب، كما تقتضي بذلك أعراف وتقاليد مجتمعه الأصلي. شخصيتان رئيسيتان اكتسحتا أحداث الفيلم من أوله إلى آخره، ورغم ذلك لم نشعر بالملل والتذمر بل عشنا من خلالهما أبهى اللحظات المؤلمة والسارة، ولعل السر في ذلك هو التغيير الإيقاعي المتواتر للمشاهد ومعها الحالة النفسية للشخصيتين، واعتقد من خلال تتبعي للفيلم أن هذه الحالة تتغير بمجرد تجاوز كل ألفية من الرحلة، فكما نعلم أن الرحلة استغرقت ما يقارب الخمسة آلاف كيلومتر، ابتداء من فرنسا، ومرورا بالدول التالية: إيطاليا، سلوفينيا، كرواتيا، صربيا، بلغاريا، تركيا، سوريا، الأردن، وأخيرا السعودية، وربما قصد المخرج تغيير الإيقاع وتسريعه حسب المسافات المقطوعة، وهكذا نلاحظ أن المرحلة الأولى اتسمت بالصمت، تليها مرحلة التصادم، ثم مرحلة استكشاف الآخر، لتنتهي بمرحلة التفاهم والتفهم. وسعيا وراء الدلالات الرمزية للصورة استطاع المخرج أن يبرز بعض المحاور التي كرسها في الفيلم من خلال بعض اللقطات والمشاهد الذكية، فمثلا لم يكثف المخرج من المشاهد الطبيعية للبلدان التي مرت منها كاميرا التصوير، بل تجاهلها بشكل مطلق، علما أن هذه الدول تمتاز بطبيعتها الخلابة، وفي اعتقادي هي محاولة منه للابتعاد عن التناقض الذي قد يشعر به المشاهد بين الحوار والصورة، فالرحلة كما قال الأب رحلة دينية غير سياحية بالمرة، وهذا ما لحظناه عندما استغنى الابن في النهاية عن آلة التصوير الذي جلبها معه لأخذ صور تذكارية، والمكان الوحيد الذي صوره بها هو المسجد التركي. كما أحسسنا بصدق الأب في التعامل مع هويته، إذ استشعرنا من لغته المتداولة في الفيلم (اللهجة المغربية) والتي يتكلم بها مع ابنه رغم عدم إتقان هذا الأخير لها تكريسا لهذه الهوية، وقد يظن المشاهد أن التعامل مع هذه اللغة نابع عن جهل الأب باللغة الفرنسية، إلا أنه يفاجأ عندما يتكلم بها بإتقان داخل مخفر الشرطة بتركيا. لقطة أخرى تحيلنا إلى صدق صورة اسماعيل الفروخي، وهي لقطة تسليم جوازات السفر للجمارك التركية حيث يتبين لنا من خلال الجواز الأخضر تشبت الأب بهويته وجنسيته المغربية رغم الثلاثين سنة التي قضاها بفرنسا، هذه السنين التي تخول له الحصول على جنسية هذا البلد وباقي الامتيازات المرافقة لها بسهولة، بخلاف ابنه ذي الجنسية الفرنسية والواضحة من خلال لون جوازه الأحمر. هي إذا إشارات جميلة وذكية تساعد على توصيل رؤية المخرج الفنية للمتلقي وإشراكه معه في تشكيل أبعادها. بخلاف المشاريع السينمائية الغربية التي تتعمد تحريف الواقع الإسلامي تبعا لمصالحها الذاتية، حاول فيلم "الرحلة الكبرى" تبسيط هذا الواقع وتخليصه من الصفات السلبية اللصيقة به، وإخراجه من تلك الضبابية المبهمة التي يراه بها الغرب، وبالتالي وضعه جاهزا أمام جمهوره، حتى يتمكن من فهمه وتناوله بسهولة. العملية الإبداعية برمتها تعكس الواقع بل تورطه في بعض الأحيان، عبر إلباسه حلة قد تكون مناسبة أو غير مناسبة له، وهذا التورط ينبع من قناعات ورؤى صادقة أو مصطنعة قد تسمو بهذه العملية أو تنسفها، وهذه الحركة اللامتناهية تخضع لمطالب السوق الاستهلاكية، التي بدورها تخضع لتقلبات الأحداث والقضايا الآنية، وهذا ما نستشفه من خلال المسار التاريخي للسينما الغربية، إذ تعمل بشكل مستمر على ترويج مصالحها وأهدافها وتُقحم السياسة في الصورة، فتارة ضد وتارة أخرى مع، وفي الأفلام الموجهة ضد المعسكر الشيوعي سابقا خير دليل على ذلك، وهذا ما يجعلنا نصفق لكل مبادرة منبثقة منا نحن، تدافع عن هويتنا الدينية بشكل يفهمه ويستسيغه الآخر، خصوصا في هذا الوقت بالذات التي تتجه فيه كل المدافع نحونا. فؤاد زويريق