ارتبط ظهور السينما في الجزائر بالفترة الاستعمارية إذ أصبحت قبلة للسينمائيين الفرنسيين بدءا بالإخوان لوميير . وعرضت أولى الأفلام بالجزائر مع نهاية القرن التاسع عشر . وبعد الاستقلال عرفت السينما الجزائرية تحولات كثيرة من حيث الشكل والمضمون إذ برز مخرجون كبار أمثال محمد الأخضر حمينة و محمود الزموري وحجاج بلقاسم ...الخ ، تلقوا تعليمهم بفرنسا ونقلوا تجاربهم السينمائية إلى الأرض الجزائرية التي تغري مناظرها كبار المخرجين ، ومن بين التحف الفنية التي أبدعت فيها السينما الجزائرية الأمازيغية نجد شريط " مشاهو ". يحكي شريط مشاهو الذي أخرجه بلقاسم حجاج سنة 1996، قصة رجل يغادر منزله بشكل مفاجئ في رحلة صعبة للانتقام من شاب دنس شرف عائلته بتورطه في علاقة غير شرعية مع ابنته الوحيدة ، وتقوده هذه الرحلة لاكتشاف عوالم الريف الجزائري الذي ينتمي إليه ، كما أنه دخل في مغامرات كثيرة كادت أن تؤدي بحياته في الكثير من الأحيان . قدم المخرج حجاج بلقاسم حكايته في قالب درامي تناسلت داخله الأحداث وأعطتنا طبقا سينمائيا يجعل المشاهد غارقا في ثنايا اليومي بجبال القبايل الجزائرية . يوجه المخرج مشاهديه مند البداية وذلك عندما يقترح عنوانا ذو دلالات حكائية ومحلية جزائرية قبايلية بالخصوص فكلمة "مشاهو" هي كلمة أمازيغية تبدأ بها نساء القرى القبايلية حكايتهن الليلية للأطفال الصغار قبل العشاء وتسمى القصة بتمشاهوت . كما يتأكد هذا التوجيه من خلال موسيقى الجنيريك التي تشير بشكل مباشر إلى القبايل من خلال حضور الحان الفنان المتميز وصاحب رائعة أبابا إينوفا إنه يدير وهذه الموسيقى وظفت بشكل جيد داخل الشريط أيضا ،حيث كان هناك تناغم بين طبيعة المواقف التي تكون فيها الشخصيات ونوع الموسيقى الذي يرافقها فالمشاهد الحزينة ترافقها موسيقى حزينة والعكس بالنسبة لمشاهد الفرح . يمكن تصنيف الشريط ضمن أفلام سينما الطريق ، لأنه يصور رحلة أرزقي للبحث عن العربي الذي أخطأ التعامل مع ابنته، بعد أن أنقذ حياته وسط غابة موحشة باردة لا يسمع فيها إلا أصوا ت الطيور . يتميز الشريط بكثافة معانيه ودلالاتها العميقة ،كما أنه يقدم صورة بانورامية عن الحياة اليومية لسكان القبايل، ساعده في تقديم هذه الصورة تنقل أرزقي في أماكن كثيرة والتقائه بشخصيات من مختلف الأعمار وذلك لمدة تقارب سنة وهي مدة سمحت له أيضا بالوقوف عند تفاصيل حياة القبايلي في كل فصول السنة .ومن خلال تأمل مشاهد الشريط نستكشف دلالات كثيرة، ولغة مشفرة تتجلى ملامحها في طريقة اللباس وفي الطقوس و طبيعة الأمكنة المصورة . ويمكن رصد هذه التجليات من خلال التصنيف التالي :
_ الأزياء وتجليات الفرح والحزن : ركز بلقاسم حجاج في شريطه على طريقة اللباس التي لعبت دورا هاما في تشكيل الحكي داخل الفيلم واستغلها في بناء العديد من الرموز، وهكذا يمكن تحديد الانتماء الاجتماعي والمجالي للبطل أرزقي منذ اللقطة الأولى حيث يرتدي سلهاما أحمر وجلبابا أبيض وكلاهما قصير ويضع قبعة حمراء وهي ملابس تساعد على مقاومة البرد لكنها أيضا تسمح بالحركة السريعة لأن أرزقي في الجبل من أجل جلب الحطب ،وهو عمل لا يمكن القيام به إلا بتلك الملابس، ويمكن استخلاص دلالة اللون الأبيض والذي يعبر في الغالب عن السلم أي أن الإنسان القبايلي مسالم لكنه قد يضحي بكل شيء في حالة ما تعرض للإهانة وهو ما استحضره المخرج في اللون الأحمر الذي حضر بكثافة في العديد من اللقطات . سيعطي المخرج بعدا رمزيا أخر للملابس للكشف عن وجود علاقة بين العربي وفرودجة من خلال تغيير "لوك" الفتاة أثناء خلوتها مع العربي كما أنه تم تصويرها في لحظة حميمية بالنسبة للنساء وهي لحظة وضع الماكياج، إذ كشفت عن شعرها وأزالت غطاء الرأس الذي يعتبر من الأمور الضرورية بالنسبة للنساء والفتيات في العديد من القرى الأمازيغية ،وقد أدمجت هذه المسالة في ثقافة الساكنة وأصبحت تتجاوز الطرح الديني لأن العديد منهن يضعن غطاء الرأس ولكنهن لا يعرفن شيء عن فرائض الصلاة مثلا . سيعطي المخرج دلالات عميقة للملابس عندما تستغل فرودجة غياب الأم والأب عن المنزل لارتداء لباس غير عادي يرتدى في الحفلات والمناسبات ، لكن لقاءها مع العربي عنى لها الكثير وقد تجلت أهمية ذلك الزي في الطريقة التي اعتمدت عليها فرودجة للتخلص منه بمجرد ما سمعت أثر أقدام قادمة نحو وسط المنزل ،مثلما تخلصت من العربي الذي كان متكئا على كتفيها لمساعدتها في النزول من السلالم ، وقد لاحظت الأم بمجرد دخولها إلى المنزل أثار الزينة على وجه ابنتها خاصة وضع الكحل ، وهو ما بررته بمرض عينيها . استعمل المخرج لقطات كبيرة لتقريب نوع الملابس وطبيعة أثوابها و ألوانها وذلك في مناسبات كثيرة كالأعراس والمأتم . واشتغل كثيرا وببراعة على لباس أرزقي في كل محطات رحلته، حيث انطلق بلباس محترم لكن مع توالي الأحداث واستمرار البحث والإصرار على تحقيق الهدف تغيرت ملابسه للتعبير عن الوضعية النفسية والاجتماعية المتأزمة التي كان يعيشها، وكانت النهاية مؤثرة جدا حيث لم تستطع الزوجة والإبنة التعرف عليه بسبب ملابسه المتسخة التي تشبه ملابس المشردين ، وهو شيء لم يكن ليقع لو جاء بلباس محترم إذ يمكن التعرف على شخص ما ولو كان بعيدا خاصة في مجال قروي قليل السكان وهو ما يعني استنكار المخرج لرحلة الانتقام التي قادت أرزقي إلى الجحيم . تجدر الإشارة إلى أن المخرج اشتغل مع الممثلين بشكل جيد في كل ما يتعلق باللباس وذلك لتقريب المشاهد من الحياة اليومية للإنسان القبايلي . _الأمكنة واستحضار المعمار الأمازيغي الريفي : ركز المخرج على الأمكنة بقوة حيث أكثر من اللقطات العامة التي تعطي تفاصل أوفر عنها كما اعتمد على تقنية الزووم للغوص في عمقها سواء داخل المنزل أو خارجها .ويمكن التمييز بين ثلاثة فضاءات كبيرة في الشريط : أولا : منزل أرزقي الذي قدم في لقطات كثيرة من الخارج" البهو والسطح " والداخل كل فضاءات المنزل الداخلية" المطبخ قاعة الضيوف /إسطبل الحيوانات ...." . وهو منزل منعزل وسط الغابة لكن هناك منازل قريبة منه لأن السكان يشاركون أهل أرزقي احتفالهم " احتفال الفتيات في الحقول ،سقي المياه / معصرة الزيتون/ ...." و تم تصوير الفضاء الداخلي للمنزل بإنارة قليلة للدلالة على المستوى المعيشي لعائلة أرزقي وهذا يأخذنا للحديث عن السكن المتفرق في بعض الأرياف الأمازيغية مثل الريف المغربي بسبب العادات والتقاليد والخوف من الاختلاط بسب الغيرة ،وبتقديم المخرج لمنزل أرزقي قدم لنا المرافق المرتبطة به كالعين المائية ومعصرة الزيتون التقليدية والغابة التي انطلقت منها أحداث الفيلم . ثانيا الطريق : عبر رحلة أرزقي يمكن مشاهدة صور جميلة للطبيعة بالجزائر من جبال ومياه وسفوح ممتدة وذلك في لقطات مفتوحة ، مثل لقطة الافتراق بين يوسف وأرزقي . ثم لقطة عملية الحصاد أو استراحة فرقة المتمردين وسط الجبال قرب الشلال .وهناك لقطة رائعة تم فيها التصوير من أسفل إلى أعلى عند دخول أرزقي إلى القرية التي يسكنها يوسف والتي وجد فيها مأتم شاب قتل في قضية تشبه قضيته إلى حد ما أي أن المسألة ترتبط بالشرف.كلها صور جميلة تبرز ما تزخر بها الجزائر من مناظر طبيعية خلابة . ثالثا : قرية العربي تعتبر القرية التي يسكنها العربي وعائلته من الأمكنة التي ركزت عليها الكاميرا ومن زوايا متعددة حيث اعتمد على لقطات كبيرة لتقديم محيط منزل العربي ثم بعد ذلك توغل بلقطات قريبة في أزقة ودروب القرية إذ انتقل من العام إلى الخاص ،وقد لاحظنا أن الكاميرا توقفت في بداية الفيلم في باب منزل أسرة العربي تعبيرا عن جهل أرزقي لما يجري داخلها .لكن بعد إنجاب فرودجة لطفلها ستدخل الكاميرا إلى الداخل تعبيرا عن الاندماج بين العائلتين . أبرز المخرج ظروف العيش الصعبة في القرية من خلال تصويره لشكل البنايات وحجمها وطريقة التنقل بينها وهي إحالات على البؤس الذي طبع المكان ،و لكي يؤكد أزمة السكن مثلا تم تقديم الطعام للضيوف خارج المنزل إشارة إلى ضيق المنزل وهي عادة تنتشر بالمغرب أيضا لكن في صفوف اسر الأحياء الشعبية والقرى حيث تستغل منازل الجيران لإيواء الضيوف وهو ما لا يتم في أحياء الطبقات الميسورة حيث يتم استقبال الضيوف في قاعات الحفلات . خصص المخرج حيزا كبيرا من شريطه لتقديم الأمكنة وإبراز خصوصياتها وذلك بطريقة فنية رائعة حيث وزعت مشاهد الفيلم بين اللقطات الكبيرة و الصغيرة . البعد الطقوسي والإجتماعي : استحضر المخرج في شريطه كل أبعاد الحياة اليومية لساكنة الريف الجزائرية في الفصول الأربعة وكانت البداية مع لقطة جلب الحطب وهي عادة/ عمل تقوم به النساء والرجال على حد سواء ، تم العثور على العربي الذي فقد وعيه وسط غابة باردة مليئة بالثلوج وقدوم أرزقي به إلى المنزل دون معرفة سابقة تؤكد كرم الإنسان الأمازيغي .وتجذر البعد الإنساني في سلوكاته ويعبر أيضا عن تجليات تحرر وحداثة الأمازيغية حيث تلقى الضيف العلاج وسط المنزل بحضور الزوجة والابنة .ويمكن التمييز في العادات والتقاليد المتناولة في الفيلم بينما هو داخلي وخارجي : داخليا : اقترب المخرج إلى المعيش اليومي لأسرة أرزقي في تفاصيله الدقيقة حيث قدم لنا صورا بانورامية عن المطبخ وطريقة الاشتغال فيه حيث تقوم الزوجة بإعداد الطعام بمساعدة ابنتها ،كما صور طريقة إعداد اللبن ،والدقيق بالطريقة التقليدية ، هناك لقطة أخرى مرتبطة بدور المرأة داخل المنزل والمتعلقة بالنظافة إذ استغل المخرج تنظيف فرودجة لغرفة العربي لضمان التواصل بينهما .أخذنا المخرج أيضا إلى وظيفة هامة تقوم بها المرأة وهي رعاية الأطفال والسهر على تربيتهم وذلك من خلال لقطة المهد . خصص المخرج مجموعة من اللقطات لتصوير مظاهر الحزن وطريقة التأبين بإحدى القرى التي مر عليه أرزقي بعد وفاة شاب في مقتبل عمره . خارجيا : أبرز المخرج كذلك جوانب كثيرة من حياة السكان خارج المنزل خاصة الطقوس الروحانية المقدسة مثل موسم سيدي عثمان الذي يأتيه الزوار من مناطق كثيرة وتقام الاحتفالات بشكل جماعي وهي ظاهرة تتكرر في كل القرى والمداشر بالشمال الإفريقي .كما أنه صور مشهدا لما يعرف ب " الحضرة " حيث يرقص الرجال على نغمات موسيقية خاصة تنتهي بفقدان الوعي والدخول في حالة من الاسترخاء والانتشاء بالإضافة إلى تصوير المسجد والقرية ذو التجهيزات المتواضعة وقد أخذ صورة رائعة للمسجد من الخارج جمع فيها بين الظل وأشعة الشمس .حضر العرس كطقس احتفالي في شريط " مشاهو " من خلال تصوير موكب عرس يمر من جانب أرزقي وتتضح عليه مظاهر المعاناة عكس عناصر الموكب الذين ارتدوا ملابس نظيفة تعبر عن فرحهم وهي إحالة على حضور لحظات الفرح وسط تلك المأساة ، وعبر رحلة أرزقي توقف بنا المخرج عند لحظات خاصة من حياة الفلاح البسيط وهو يعانق أشعة الشمس الحارقة ليستمتع بعد ذلك بوجبة طعام تحت شجرة بظل وارف . وهي لقطات تؤكد على تيمة الكرم الحاضرة بقوة في الشريط . يمكن اعتبار شريط مشاهو موسوعة اجتماعية حول الريف الجزائري وقد تم تقديمها في قالب فني رائع ساعد في ذلك طبيعة السيناريو الذي يتحدث عن رحلة من أجل الانتقام . المرأة أو تمغارت وتدبير اليومي في غياب الرجل : يمكن قراءة الشريط من زاوية حقوقية مرتبطة بوضعية المرأة في المجتمع الامازيغي ، فهي عنصر فعال وتحمل اسم "تمغارت" أو الرئيسة التي يقابلها "أمغار " ، نفس الرسالة أراد الفيلم إيصالها من خلال تحمل الزوجة لمسؤولية التكفل بالبنت والمنزل رغم غياب الزوج لمدة لما تقارب سنة، فقد استقبلت زوج ابنتها ونادت على الشهود من القبيلة لإتمام مراسيم الزواج واستقبلت أيضا أصدقاء أرزقي المتمردين كما أنها واصلت الاعتناء بالشجرة التي ترمز إلى الأرض والسيادة . مشاهو واستنطاق الرموز : ضمن المخرج شريطه مجموعة من الرموز لإيصال عدة رسائل منها المرآة التي تحيل على الاكتشاف واللذة والبوح ، كما أن انكسار الإناء المليء بالحليب يعبر عن نقض طهارة فرودجة من طرف الضيف العربي، وقد تأكد ذلك عندما فقدت وعيها وسط الحقول وهي إشارة مشفرة أيضا للتأكيد على الحمل .اعتمد المخرج كذلك على رمز صوتي في صوت الغراب ذو اللون الأسود الذي تكرر في بداية ونهاية الفيلم وهو فأل سيء في الثقافة الأمازيغية . صعود الفتاة إلى فوق التل رفقة ابنتها بعد عودة العربي للدلالة على عودة المكانة الاجتماعية المفقودة بعد اكتشاف الحمل دون عودة العربي .فالصعود إعلان عودة الحظوة الاجتماعية والصراخ كان موجها للقبيلة أكثر من أرزقي . ويمكن اعتبار الطفل أيضا رمزا للعار بالنسبة لأسرة أرزقي والدليل أن قتله للعربي لم يشف غليله فقد ظل صوته يطارده كأنه اكتشف في النهاية أن الانتقام لم يكن حلا لقضيته . يمكن القول أن المخرج كان ضد سلوك الانتقام منذ البداية وذلك من خلال المسار المأسوي الذي سطره للبطل منذ بداية الشريط فقد رفض تخليص أرزقي من أزمته حتى بعد مقتل العربي وطريقة وصوله إلى المنزل كانت معبرة جدا حيث سقط مغميا عليه في بهو المنزل ولم تستطع زوجته التعرف عليه وهو ما يعني عدم الرضى على القتل وبالتالي رفض سلوك الانتقام الذي يعتبر سلوكا منبوذا في كل المجتمعات . ثنائية الشر والخير معكوسة : اعتمد المخرج على ثنائية الخير والشر بطرقة معكوسة في بعض الأحيان حيث يتحول الخير إلى شر والشر إلى خير فمثلا أرزقي أنقذ العربي من موت محتوم لكنه غدر به وتورط مع ابنته في علاقة غير شرعية ،كما أن أرزقي أنقد يوسف الذي طارده أفراد قبيلته بسبب قتله لشاب من القرية ،وسيلتقيان مرة أخرى لينقذه يوسف ويقدم له الدعم ولأسرته .نفس الثنائية تحضر مع المتمردين الآخرين فهم خارجين عن القانون لكنهم أحسنوا إلى أرزقي والى اسرته وقدموا دعما معنويا وماديا للزوجة في وقت الشدة . في الختام يستحق عمل بلقاسم حجاج صفة الموسوعة الاجتماعية فنيا كما أشرت سابقا ،فقد استطاع أن يتناول أبعادا كثيرة في شريطه انطلاقا من رحلة عادية في فضاء قروي محافظ يصبح فيه الشرف والعرض رأسمالا يصعب التخلي عنه ولو تطلب الأمر سفك الدماء وهذا ما تم بالفعل في شريط مشاهو الذي ترك نهاية أرزقي معلقة للتأكيد على هزيمة كل القيم اللانسانية . محمد زروال /تونفيت خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفادة