في قلب الحضارة الإسلامية، كان هناك نظام متقن يعتني بحقوق الملكية الفكرية، يُعرف ب"ولاية الحِسْبة". هذا النظام لم يكن مجرد إطار قانوني، بل كان محركاً للابتكار وحافزاً للنمو الاقتصادي والثقافي. في نصوص القرون الوسطى، نجد آثار تلك الحضارة الرائعة، حيث كتب أحد المشاهير القضاة في الأندلس في القرن السادس الهجري ما يطالب بعدم بيع كتب العلم لغير المسلمين إلا بموافقة أصحابها. وهذا النص يكشف لنا عن الاهتمام العميق بحقوق الملكية الفكرية وضرورة حمايتها. تقديراً لهذه القيمة الحضارية، تحلَّت المجتمعات الإسلامية بالتقدم والازدهار في مختلف المجالات العلمية والتقنية والفنية. ومع مرور الزمن، انتشرت تلك المعرفة والخبرات إلى أقطار أخرى، ولكن بعضها تعرض للاستنساخ والتزوير من قبل لصوص المعرفة. إن فكرة حماية الملكية الفكرية والابتكار لم تكن مجرد مفهوماً نظرياً، بل كانت جزءاً أساسياً من نظام "ولاية الحِسْبة". هذا النظام الشامل لم يكن مجرد مجموعة من القوانين، بل كان يتضمن أيضاً جهوداً حثيثة لتطبيق ورقابة الابتكار والمعرفة. وما يثير الدهشة هو كيف أن هذه القيم الحضارية الإسلامية تتلاقى مع قيم العصر الحديث، حيث يتم التركيز اليوم على حقوق الملكية الفكرية وحمايتها في مجتمعاتنا المعاصرة. ففي وقتنا الحالي، نجد أن تلك القيم النبيلة تتجسد في مفاهيم مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والابتكار التكنولوجي. إنها تعكس توازناً مثالياً بين الدين والعلم، وتذكِّرنا بأن الحماية ليست فقط للأفكار ولكن أيضاً للمبادئ والقيم التي ترتكز عليها الحضارات المزدهرة. في النهاية، يُعتبر نظام "ولاية الحِسْبة" ليس فقط واحداً من أنجح النظم في حماية المعرفة والابتكار في تاريخ الإنسانية، بل كان أيضاً عاملاً رئيسياً في ازدهار الحضارة الإسلامية ونهضتها العلمية والاقتصادية والثقافية. تجسّدت مؤسسة الحسبة في قلب المجتمعات الإسلامية كوسيلة فعّالة للحفاظ على التحضر والتقدم، وتعزيز العدالة والأخوة بين أفرادها. لم تكن الحسبة مجرد نظام قانوني، بل كانت روحاً تعمل في عمق المجتمع لتهيئته وتطويره. كانت مهمة الحسبة تحقيق الانفتاح وتعزيز جودة المجال العام، من خلال رقابة دقيقة وتنظيم فعّال للمؤسسات الاجتماعية والحكومية. ولم يكن دورها مقتصراً على مجرد فرض العقوبات، بل كانت تشمل أيضاً تعزيز المعايير المهنية وتحسين جودة الخدمات. تعمل الحسبة في اتجاهين: الرقابة على المؤسسات الحكومية والاجتماعية، وضبط حركة المجتمع وتنظيمها. كانت هذه الرقابة تشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية والقانونية، من الفتوى الدينية إلى الإجراءات القضائية والتدابير التنفيذية. بالإضافة إلى ذلك، كانت الحسبة تهتم بحفظ صناعة الفتوى الدينية، وتقديمها على يد أهل العلم المؤهلين. وكانت تسعى لتطوير المجتمع وتعزيز تقدمه عبر تحقيق التوازن بين العلم والدين، وتحقيق العدالة والتقدم الاجتماعي. بشكل عام، يمكن القول إن مؤسسة الحسبة كانت جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الإسلامية، وكان لها دور كبير في تعزيز العدالة والتقدم في المجتمعات التي عاشت فيها. دور الحسبة في حماية المستهلك وصيانة النظام العام كان حيوياً في الحضارة الإسلامية. كان المحتسب يقوم بتطبيق العقوبات الشرعية لضمان جودة المنتجات وصحتها، ولحماية حقوق المستهلكين في كسبهم المادي وضمان حياة كريمة لهم. تمثلت ولاية الحسبة في النبوة في عدة أمثلة، حيث كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بتفتيش البضائع في أسواق المدينة لضمان نزاهتها وعدم وجود غش أو تلاعب يضر المستهلكين. وقد ورد في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم فحص جودة قمح أحد التجار ومنعه من بيعه بسعر زائد عن السوق، معبراً عن قاعدة النزاهة والعدالة في التجارة. بعد العهد النبوي، توسعت صلاحيات الحسبة مع نمو الأنشطة التجارية في الدولة الإسلامية، وخصوصاً في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي جعل توسيع صلاحيات الحسبة من أولوياته. كان الخليفة عمر يتجول في الأسواق لتفتيش المعاملات ومنع أي عمليات غش أو تلاعب. كما عين الخليفة عمر الفاروق عملاءً مختصين في مراقبة الأسواق، ومن بينهم الصحابية الجليلة شفاء بنت عبد الله القرشية، التي كانت تتولى مهمة رقابة الأسواق ومراقبة العمليات التجارية. تحت حكم الدولة الأموية، استمرت جهود الحسبة في حماية المستهلك وضمان النزاهة في التجارة. ومع ذلك، بدأت تظهر بعض التحولات في هيكلية الحكم، حيث عين الخلفاء العباسيون مسؤولين مختصين في إدارة الحسبة ورقابة الأسواق. بشكل عام، يُظهر التاريخ الإسلامي العظيم أن الحسبة كانت جزءاً لا يتجزأ من نظام الحكم الإسلامي، وكانت لها دور كبير في حماية حقوق المستهلك وضمان نزاهة التجارة في المجتمعات الإسلامية.