غالبا ما يترتب عن تفشي مظاهر العداء والاستعداء والتجني في أوصال مجتمع ما واشتداد الأزمة في العديد من مناحي حياته، العديد من التداعيات السوسيو-أنثربولوجية، أبرزها هذه الآفة المسكوت عنها المتمثلة في تمثل العدو أو بالأحرى تلك الآليات الدقيقة التي تنحت فسيفساء صورة العدو. ولعل حال المجتمع المغربي اليوم، يدعونا أكثر من أي وقت مضى، للوقوف عند أهم تمظهرات هذا التشكل الذي يشي بمخرجات قد لا تحمد عقباها. فالعدو إجمالا هو الكائن الإنساني أو الميتاإنساني الذي يشكل تهديدا يتخذ شكل العدوان، أي ذلك السلوك الموجه عمدا للإيذاء. إن تتبع هندسة فسيفساء صورة العدو كما تتشكل في الإدراك والمتخيل الجمعي، تفرض النظر من زاويتين مختلفتين: زاوية ميكرو اجتماعية تخص ذلك الفرد المماثل من داخل الجماعة أو المجتمع الذي يوصف بالعدو العقيدي. هذا الذي يعيش معي في نفس الإطار المجتمعي والذي يصبح سلوكه إيذاء متعمدا ممنهجا لي، لعشيرتي ولجماعتي ولمجتمعي. وهنا يتعقد الأمر، حين يستجمع الإدراك والتمثل الجمعي، السلوكات العدوانية المتعمدة والممنهجة للأفراد في إطار فئة يتم توصيفها بصفة نمطية تنقل العدو العقيدي من الفرد إلى الفئة. لتشرع الأبواب أمام انفلات خطير يتسم بالاختزال والتضخيم والتحيز والتعميم. ف"الشفار" الغني ليس بالضرورة عدوا لأنه إن كان كذلك، يمتلك من الآليات ما يجعله مذموما عند البعض محبوبا عند البعض، شأنه شأن كل إنسان، لكن "الشفارة كروش الحرام لي خرجوا على البلاد"، توصيف ينقل فعل الفساد الفردي المرتبط بالحياة العادية إلى تحالف فئوي له أهداف، يشكل تحقيقها عدوانا مفتوحا على مصير فئات عريضة أخرى. ويتبدى جليا أن الانتقال من مرتبة المنافس، الخصم، المتصارع بالمعنى الذي أعطاه جورك سيمل لمفهوم الصراع، إلى مرتبة العدو، له مقادير ومحاذير يصعب الخوض فيها بتفصيل في هذا المقام، لكنه انتقال يعلن ميلاد بؤر حقيقية إذا ما توافرت لها أسباب معينة، تحول الاحتقان المجتمعي إلى مواجهة مفتوحة لا نجد أبلغ من الفتنة لوصفها. وقد يكون من بين السيناريوهات الكثيرة لهذا الانتقال، ارتكاس خطير يحول المماثل الطبيعي الذي يعيش في كنف نفس المجتمع، إلى عدو صريح يجب القضاء عليه. فإذا كان مغربي مرحلة الاستعمار يربط العدو بالكافر بالله، وهو يقصد ذلك النصراني المستعمر، فإن جماعات تكفيرية نقلت الكافر بالله إلى داخل صفوف مجتمعها، معتبرة بعض أبناء جلدتها كفارا أعداء لله وبالتالي أعداء لها. فكيفما كانت خطاطة سيناريوهات بناء صورة العدو بين أوصال المجتمع الواحد، وجب الانتباه أكثر، إلى ردة الفعل الناتجة عن توصيف أو تصنيف العدو المتراوحة بين الاحتراز والاحتياط والإجهاز والتنحية. وقد أتاحت لي دراساتي الميدانية، تبين خطورة مشاعر الكراهية التي تتحول إلى عنف كبير احتجاجا على عدو يتشكل إدراكه غالبا في قوالب نمطية جاهزة فضفاضة. فالمسؤول عن بطالتي وهشاشتي الاجتماعية ووضعي المعيشي المزري هو الذي يقهرني، فهو عدوي أحاربه "بأية وسيلة ممكنة". زاوية ماكرو اجتماعية تلك التي يمليها الأنا الأعلى الجمعي بضرورة التوحد ضد الخطر الداهم، وهي أوسع دائرة من دوائر العداوة المركبة كما يشير إليها المثل المأثور: أنا ضد أخى، أنا وأخى ضد ابن عمى، أنا وأخى وابن عمى على الغريب. وهي دائرة يمكن نعتها بأنا وأبناء مجتمعي ضد الآخر. بيد أن هذه الدائرة تتحرك وفق الهدف الكامن خلف تحديد هذا الآخر. فقد يكون الآخر هو الذي يهدد وحدة أراضي الترابية، أو هويتي وتوابث ثقافتي، أو مرجعيتي الدينية. لكن الغوص في هندسة هذه الدوائر يفضي إلى حلقات يتفاقم تعقيدها بحسب المدخلات الاجتماعية، الثقافية أو الدينية المغذية لفكرة العدو. فإذا كان الاختلاف غائبا إزاء فكرة العدو العسكري، إلا من لدن فئة تنعت بالانفصالية أو الخائنة، فإنه اختلاف قائم إزاء فكرة العدو المهدد لهويتي، إذ هناك من يعتبر الغزو الثقافي الناعم تثاقفا حداثيا لا ضير فيه، بل يذهب الأمر إلى اعتماد لسان الغالب من لدن المغلوب كضمان للحاق بركب الحضارة الإنسانية. ويعتقد خَدَمَةُ الغالب ثقافيا أنه من العبث الحديث عن عدو ثقافي، لأن الثقافة إنسانية في ماهيتها ولا يمكن أن تحصر في أبعاد جغرافية أو مجتمعية. ففكرة العدو مرتبطة بوجود اختلافات ثقافية جوهرية بين مجتمع ومجتمع، وهنا قطب الرحى، إذ هناك من يسلم بأن الثقافة الأقوى هي التي تفرض قواعدها، حيث لا يترك التثاقف للعدوان الثقافي أي مجال. إن زاويتي النظر هذه لا تحجبان زاوية أضحت أشمل وأدق في نفس الآن، تحيد عن المنطلقات الاجتماعية والثقافية والدينية المغذية لفكرة العدو، كونها تصنع العدو وفق خيمياء محددة لتأدية وظائف محددة. فالأجهزة السياسية والاستخباراتية والإعلامية قد تتجند لخلق عدو بحثا عن إضفاء الشرعية لقرار سياسي، أو لتبرير فشل سياسي أو تفاقم أزمة اقتصادية، أو لتجاوز احتقان اجتماعي بتقديم عدو قوي شرير ككبش فداء بمفهوم روني جيرار. ولنا في علم النفس السياسي ما يكفي من الإصدارات لنتبين دقة هذه الصناعة. إن تشكل الذات وصورة الآخر في إطار القيم والأفكار والتقاليد والعادات المتوارثة، يجعل من الثقافة المدخل الأشمل لتجنب كل الانفلاتات الوخيمة العواقب في بناء فكرة وصورة العدو لدى أفراد وجماعات المجتمع (كجريمة ذبح السائحتين الأجنبيتين). ويمكن في هذا السياق، اعتبار بلورة استراتيجية مغربية للأمن الثقافي في إطار سياسة ثقافية وطنية، كفيلة بأن تشكل الحصن المنيع ضد كل ما يطال فكرة الآخر/العدو من تشوهات. على ألا تكون هذه الاستراتيجية زيادة للرقابة على آليات ووسائل الفعل الثقافي الحر، أو فرض لقوالب جاهزة لا تقيم بالا للإبداع والمبادرة والابتكار. بل يجب أن ترسم إطار الرؤية الثقافية الحضارية للشخصية المغربية التي ستتواصل بها المملكة المغربية مع الثقافات الإنسانية مع حرصها على الاستفادة من هذه الثقافات دونما ذوبان لمقوماتها المتوارثة عبر الأجيال. فعلى الصعيد الداخلي، يصبح أحد أهم أدوار أمننا الثقافي، تشخيص مكامن التشنجات الهوياتية وتوفير وسائل وأدوات وبرامج تفكيكها من خلال توفير شبكة فضاءات ثقافية، توفر عرضا ثقافيا لا يدع مجالا لترعرع أسباب التكلسات الهوياتية. إن الأمن الثقافي الذي نتحدث عنه هو ذلك الذي يقف سدا منيعا ضد الإقصاء والتهميش من المرفق والخدمة الثقافية، من خلال برامج وطني لتفعيل الحقوق الثقافية لجميع المغاربة بتنوع طيف روافدهم الثقافية. ويبقى التحدي الأبرز، هو بناء هذه المضامين الثقافية التي ستشكل هذا العرض الثقافي القمين بتعزيز انسجامنا الاجتماعي ودحض ما يعلق به من شوائب وأخلاط. ومن جهة أخرى، فإن الوساطة الثقافية كآلية تجعل من الخدمة الثقافية المرتكز التأطيري الأبرز إلى جانب المرتكز التربوي، تبقى أحد أهم أركان هذا الأمن الثقافي. وأما فيما يتعلق بدور الأمن الثقافي الوطني في مواجهة صناعة العدو، فإنها تتمثل أولا في ذلك التفنيد المنهجي للأفكار النمطية عن كياننا وثقافتنا، والعمل الحثيث على تفكيك استراتيجيات الهيمنة الثقافية المعولمة، وخصوصا بعض الاستراتيجيات التي أضحت معروفة عند خبراء صناعة العدو، ومنها استراتيجية التسميم السياسي التي تعمل على توظيف وفرض قيم معينة لا جدال حولها، لإسقاط قيم أرفع منها مرتبة في النظام القيمي للمجتمع المستهدف، كأن يتم التركيز على مقاربة النوع لفرض نماذج جديدة للأسرة، والمناصفة عوض المساواة والتكامل، أو السلام عوض العدل، أو نبذ العنف الذي يشوش على مفهوم الدفاع عن النفس. ويبقى جليا أن أي صياغة حقيقة لاستراتيجية أمننا الثقافي في رحم سياسة ثقافية وطنية، لا يمكنه التحقق دونما حوار وطني حول مغرب اليوم: هويته، مشروعه المجتمعي، خياراته الكبرى.