تحقّق التيارات المتشدّدة من مختلف المشارب زخما تعبويا بيّنا في الأوساط الشعبية البسيطة، ولدى بعض فئات الطبقة الوسطى المتذمرة بفضل طبيعة خطابها الأيديولوجي المنغلق والبسيط. يتبيّن هذا الأمر أكثر بعد الأزمات الدولية، وكذا الأحداث السياسية والاقتصادية الكبرى على الساحة الدولية: ظهور النازية والفاشية بعد الحرب العالمية الأولى، وبروز الأيديولوجيات الشمولية الماركسية اليسارية والصهيونية والليبرالية بعد الحرب العالمية الثانية مرورا بحرب الخليج الأولى والثانية، ووصولا إلى ما سمّي عند البعض ب"الربيع الديمقراطي العربي". بخصوص الحالة العربية التي تعنينا أكثر من غيرها، من المهم الإشارة إلى أنّ نضج وتظافر الظروف التاريخية والاجتماعية والسياسية كان وراء بروز واستحواذ التيارات الدينية على نتائج الربيع الديمقراطي العربي. كان ذلك، بالنسبة لكلّ تحليل موضوعي، نتيجة حتمية لملأهم الفراغ الثقافي والأيديولوجي الذي أحدثه انحسار التيار العلماني الماركسي والليبرالي على حدّ سواء. بيد أنّ المفاجئ هذه المرّة- على الأقل بالنسبة للذين كانوا يظّنون في التيارات الدينية السياسية النجاح في قيادة مجتمعات تقليدية محافظة إلى تحقيق التقدّم والإزهار- هو حصول فشل بيّن لهذه التيارات في تقديم نموذج مجتمعي ملائم للعصر ومتحدّيا لإكراهاته، الشيء الذي جعله يخسر رهان كسب ثقة المجتمع في تحقيق نقلة ثقافية تقدّمية حقيقية. لكن، هل لنا أن نعلّل، مرّة أخرى، فشل المشروع الأيديولوجي للتيارات المحافظة بفرضية "الإفشال" التي تتغذّى على نظرية المؤامرة كما يلجأ إليها التيار المحافظ عندما يريد تبرير إخفاقاته التاريخية في إيجاد وصفات (ثقافية وفكرية) كفيلة بتحقيق المشروع (الموعود) الذي يعد به أنصاره ومريديه؟ توضح الوقائع السياسية أنّه من الصعب على المحافظ المتحمّس للتشدّد الديني أو القومي استيعاب تناقضاته السياسية والأيديولوجية، نظرا لما يعتري خطاباته من تناقضات ومفارقات توقّعه في الغموض واللبس بين ما يرفعه من شعارات وما يحقّقه من إنجازات على الساحة. تناقض يتأرجح بين نزوع إرادوي جامح للاستئثار بالسلطة وقابلية سريعة للفشل في التدبير الديمقراطي التشاركي للشأن العام. تعبّر هذه المفارقة عن أزمة وعي التيار السياسي الديني كما يجسّدها التفاوت بين ما يريده ويسعى إلى تحقيقه، وما لا يستطيع التضحية به من أوهام وتهيؤات خيالية غير واقعية. إنّ هذه المسألة هي ما يمكننا نعته بجدلية المكبوت السياسي والوهم الأيديولوجي التي تتدخّل، بشكل أو آخر، لرسم صور نمطية للصراع السياسي وتكريس تمثلات زائفة للوقائع لدى أنصار التيارات القومية المحافظة والدينية المتشدّدة. لذا، يمكننا اعتبار النزوع السياسي المحافظ للتيارات الدينية، كما لدى القومية المتشدّدة، شكلا من أشكال التعبير المرضي عن المكبوت السياسي الذي ظلّ لعهود خلت يشتغل في المخيال السياسي لأيديولوجيات المحافظة. وقد جعل هذا المعطى الاستيهامي الأفراد الأعضاء الذين يتبنون أيديولوجيا التشدّد يتوفّرون على نسيج من الاعتقادات التبريرية التي ترسم الاستيهامات الوهمية حول يوتوبيا المجتمع المثالي والمدينة الفاضلة المفقودة. الواقع أنّ هذا النزوع هو ما يمثل لدى أصحاب هذا التيار نوعا من الوعي الشقّي، ممّا يسبّب لهم في حالة من تمزّق الذاكرة، وتيه الخاطر، بين ماض يأبى النسيان (الأمجاد السالفة) وحاضر مُتْعب وصعب ومليء بالاكراهات؛ وهذا ما يتحوّل، بالنهاية، إلى عقدة نقص لدى أصحاب هذه الأيديولوجيات، وسعي دائم وراء سراب الدولة المثالية المفقودة. لكن، هل يمكن لثقافة سياسة مكبوتة ومأخوذة بوهم دولة الخلافة الدينية أن تتحرّر من استلاب هذا الوهم؟ بتعبير أخر، كيف يمكن لفكر سياسي "ارتكاسي" (Réactif)، مخترق بوهم الدولة الدينية، أن ينتشل ثقافة تقليدية محافظة ومغتربة عن نفسها وزمانها من براثن التخلّف والتشدّد؟ ألم يحن الوقت بعد كي تظهر العقول الحرّة النقدية القادرة على تجاوز عتبة الدولة الدينية والحزب الطائفي والعقلية القبلية؟ نطرح هذا التساؤل لتأمّل وضع بائس لمجتمعات إسلامية وعربي مقسّمة، تتنازعها الأيديولوجيات السياسية، والدينية، والقومية العرقية، قبل وبعد أحداث سنة 2011. فالواضح من هذا الواقع الثقافي العليل أنّ هذه المجتمعات المأزومة لم تخرج بعد من أزماتها الثقافية والسياسية والاجتماعية. ولقد بيّنت الوقائع السابقة بوضوح سيطرة التقليد على العقول والنفوس، بل انكشفت عورة التطرّف الديني والنزوع الطائفي بشكل مفضوح، ممّا بيّن عن ضعف منسوب العقلانية والتسامح لدى الأوساط الاجتماعية والثقافية والدينية لشعوب هذه الدول. تستغلّ التيارات السياسية المحافظة (الدينية والقومية) هذه النقطة تحديدا لترويج لنموذجها السياسي القائم على المولاة والتبعية للزعيم الروحي، أو للخط الأيديولوجي الواحد، في مقابل شيطنة المخالفين والمختلفين. من جهة أخرى، وفي سبيل تحقيق الهيمنة على السلطة السياسية في المجتمعات المحافظة بالخصوص، تطبق المنظورات المتشدّدة للثقافة والسياسة والقومية المبدأ الميكيافلي القائل بأنّه يتوجّب على كل من يريد تأسيس "دولته" اعتبار المعارضين له أشرارا بالضرورة، بل ويكون مستعدا دائما أن يدينهم ويبرز شرّهم كلّما سنحت الفرصة بذلك. الظاهر أنّ ارتكان منطق اشتغال الفعل السياسي للأحزاب والتيارات المتشدّدة، خاصّة ذات الخلفيات القومية والدينية المتطرّفة، هو ما يفضي إلى سيادة الفكر الواحد واستبداد النموذج الأيديولوجي المنغلق على نفسه. ولعلّ هذا الأمر، هو ما يفتح الباب مشرعا لبروز الكيانات الكليانية واستبداد الحزب الواحد، وبالتالي بروز الطغيان وتسيّده للمجتمعات التي تُحكم باسم العقائد الدينية والرموز التاريخية والاعتبارات القومية واللغوية العنصرية. يصعب القفز على هذا النزوع الموجود في عمق السلوك السياسي للتيار المحافظ، لكونه منغرس في بنية خطابه الأيديولوجي ومؤثّر بفعالية في سلوكه السياسي. فالشعور الديني مثلما الانتماء القومي موجودان دائما لتبرئة الذوات المعتقدة في رمزيات مقدّسة معيّنة. بالمقابل، تستخدم الاعتبارات الأيديولوجية للتبرير وتأثيم المخالفين، أو حتى تجريمهم متى استدعت الحاجة ذلك. يترجم هذا المنطق في التنافس الأيديولوجي والسياسي بين الأحزاب والمنظّمات والطوائف والتيارات إلى ما يسمّى، عادة، بالصراع السياسي وفقا للنظرية السياسية؛ غير أنّ الوعي الشقي للتيارات المحافظة، ذات الخلفيات القومية والدينية، يأبى إلاّ أنّ يضفي نوعا من القداسة والإطلاقية على هذا التنافس، وهذا ما يفضي به بالنهاية إلى الوقوع في النزوع الاقصائي والنبذ والاستبعاد المأساوي للخصم السياسي. يعمل هذا المنطق على إدانة المخالفين، بل قد يذهب بعيدا عندما يشيطن الخصم المنافس ويجرّمه أو يشيطنه كما في الحالات المتشدّدة الرديكالية للصراع السياسي. ويترجم هذا الصراع إلى استخدام مريع لثنائيات ميتافيزيقية تقوم على تحليل وتخطيط وتنسيق الفعل السياسي وفقا لتقابلات خطيرة ترسم تناقضات وهمية غير حقيقية بين: العلماني ضد الديني، الصديق ضد العدو، الإخوان ضد الرفاق، المواطن الخيّر ضد الشرّير، الفرد المؤمن ضد الكافر.. الخ. بصفة عامة، يستعمل الخطاب الأيديولوجي للتيارات المحافظة المتشدّدة معجما دلاليا ميّالا إلى تقسيم النماذج الثقافية (القيم، المشاعر، السلوكات..) إلى ثنائيات لاهوتية متعالية على الزمن والواقع، نزوعا من أصحابه إلى فرض فكرهم وسلوكهم وفهمهم الأحادي على الواقع، وفق ما يرضي رغباتهم وخيالاتهم اللاشعورية حول ما ينبغي أن يكون عليه السلوك السياسي. إنّ تقسيم الناس إلى أنصار وخصوم، لهو ترجمة سياسية أيديولوجية لتقسيمهم لاهوتيا إلى مؤمنين وكفّار. لكن، ونظرا لما للتقسيم الديني من حمولة طائفية لاهوتية، فإنّه غالبا ما يقدّم خطاب التيارات الدينية تصنيفه للناس، كأنداد سياسيين، في ثوب لطيف حيث يعتبرهم إمّا مجرّد أتباع مناصرين (شيعة)، أو معارضين زائغين ضالين. أمّا القول بكون الناس كافرين وناكري الجميل، أو متغيرون، ومنافقون؛ فيوازيه اعتبار الموالين منهم مؤمنون جيّدون في خدمة الزاوية والحزب والحركة، ومن ثم هم مستعدون ليقدموا دماءهم في سبيل نصرة الداعية المرشد. يكشف التقسيم السياسي للناس، وفق هذا المنوال، عن مفارقات عجيبة تسم الخطاب الفكري والعملي للأحزاب الدينية؛ فتارة يصبغون على المتعاون معهم أوصاف الأتقياء والأنبياء والصالحين، بنما يرمونهم بمجرّد ما يخالفونهم أفكارهم وسياساتهم بأشنع الأوصاف (الطالحون، الساقطون، الفاسدون...)، وهي العقلية نفسها التي تصل بالبعض إلى حدّ تشبيه الخصوم بالحيوانات والعفاريت. تنطوي هذه المفارقة على خاصية إبداء طهرانية الذات وشيطنة الآخر الخصم بإلصاق أشنع النعوت في حقّه. بينما يُستخدم في حقّ الأتباع والمريدين في خطاب بعض هذه التيارات توصيفات لا تكاد تخلوا من استنقاص ودونية ممزوجة بتمجيد الذات. فهم يعتبرون أنصارهم خاضعين يستجيبون ويطيعون الأوامر؛ وطالما هم كذلك فإنّهم جيّدون، أمّا الزعيم هو من يحقّ له يحدّد مقدار القرب أو الاستبعاد الذي يستحقّه هؤلاء الأتباع. إنّه من يحكم دوما على الوسائل والأشخاص بأنّها شريفة أو غير شريفة، وذلك لأنه يتم الأخذ دائما برأيه دون باقي الآراء لأنّه ليس مجرّد رأي سياسي بل كذلك ديني وروحي. يستبطن الخطاب السياسي للمحافظين المتشدّدين أبعادا سلطوية فائقة الخطورة، وذلك ما يظهر جلّيا عندما يغلّفون لغتهم وتعبيراتهم السياسية بالرمزية والمقدّسات والتَّبُوهَات (Les Tabous) ذات الصلة بالشعور الديني، والمكبوت السياسي التاريخي القابع في اللاشعور الجماعي للجماهير، خاصة مكبوت الدولة الدينية المفقودة. لذلك، يستطيع الزعيم الحزبي لدى أنصار هؤلاء، خاصّة المتمكّن منهم من البلاغة والخطابة، استمالة الناخبين والعوام بكلّ يُسر وسهولة، خلافا للزعمات التقليدية للأحزاب العلمانية اليسارية والليبرالية التي تكتفي بالمضمون الأيدولوجي للخطابات السياسية لديها. إنّ قوّة الخطاب السياسي للتيارات المتشدّدة لا تكمن في واقعيته أو شعبويته فقط، وإنّما أساسا في قدرتهم على استثارة الخيالات الوجدانية للبسطاء، عن طريق إثارة الخلفيات اللاشعورية للوعي الجمعي؛ ومن ثم بروز الحماس السياسي لنصرة الحزب أو الطائفة لدى هؤلاء الأنصار، بغية تأسيس كيان أيديولوجي مثالي يحسم أيّة معركة ثقافية أو صراع أيديولوجي لصالح أوهامه، وإرضاءً للمشاعر والخيالات الجماعية التي يتوهمّ الأنصار أنّها ضرورية التحقيق لفائدتهم. إنّه عادة ما يتبادر إلى ذهن الأتباع، في ظلّ هذا التفسير الأيديولوجي المتشدّد للصراع، العمل بشعار أنصر أخاك مهما كان ظالما. ومن المهم الإشارة إلى أنّه يوجد دوما ما يفسّر منطق اشتغال هذا المبدأ لدى المتطرّفين، المتشدّدين القوميين والدينيين والقبليين، من خلال رمزيات ثقافية أو دينية أو قومية. ولذلك، لا يصعب أن يجد كل مناصر لأيديولوجيا متشدّدة معيّنة نفسه منخرطا في لعبة التطرّف القدرة، تلك اللعبة التي تقدم نظرة متشائمة للغاية عن للمنافسين والمخالفين (القذرون، الأوباش، الزائغون، الضالون، المنحرفون، الملحدون، الكفار، المهرطقون..). هكذا، يمكن أن ندرج المقولات الأخلاقية والعنصرية التي يفكّر من خلالها منطق التشدّد (باسم أيّة أيديولوجيا كيفما كانت) ضمن حالة من الشيطنة والإدانة المريعة للطبيعة الإنسانية. ولعلّ التاريخ الحديث والمعاصر للإنسانية ليقدم الأمثلة البشعة لقيام بعض من هذه الحالات الأيديولوجية المتطرّفة والثقافية العنصرية المتشدّدة التي أفضت إلى ارتكاب الفضاعات ومختلف الشرور، كما تحدّثنا عن ذلك الحروب والصراعات الاثنية والدينية والأيديولوجية التي تورطت في ارتكابها تلك الأنظمة الشمولية في العديد من بلدان العالم.