الجمعة 26 أبريل 2019. في هذا التاريخ بلغت جُمَعُ التظاهرات الشعبية المليونية في الجارة الجزائر عشراً، لتتم مدة شهرين ونصف الشهر من الخروج ضد النظام الذي يبدو أنه أعاد توزيع الأدوار، ويحاول الإلتفاف على الشعار الأبرز لهذه الإحتجاجات السلمية: "كل شيء أو لا شيء"، أو كما يقال بالدارجةالجزائرية "يْتْنْحَاوْ كَامْلِينْ". نقول هذا على خلفية الغموض الذي يستمر مسيطراً على المشهد السياسي في البلاد، خاصة وأن شخصاً مثل السعيد بوتفليقة الذي يتحمل رسمياً مسؤولية مستشار لدى رئاسة الجمهورية، لم يصدر في حقه أي قرار بالإعفاء – على الأقل – من الناحية الرسمية (الجريدة الرسمية). مثل هذه الحالة، المستفزة والمتناقضة مع مطالب الحراك الشعبي، تطرح أكثر من تساؤل حول مدى جدية التغيير في هذا البلد الغني بالثروات الطبيعية، وهل الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تقديم بعض أكباش فداء من خلال إستدعاء محكمة مدينة تيبازة المدير العام الأسبق للأمن الوطني اللواء المتقاعد عبد الغني هامل للتحقيق معه في قضايا فساد تورط فيها إبنه أيضا، وإطلاق حملة تحقيقات قضائية استهدفت الوزير الأول السابق أحمد أويحيى ووزراء حاليين وسابقين وبرلمانيين يشتبه في تورطهم في قضايا فساد وإمتيازات غير مشروعة، وإعتقال رجال أعمال نافذين مقربين من بوتفليقة، وحبس مسؤولين عسكريين بأمر من قايد صالح، وإقالة مدير عام "سوناطراك" من طرف عبد القادر بن صالح… ومن المتوقع كذلك إستدعاء خالد نزار ونجله للتحقيق. إن الإطاحة ببعض الرؤوس، تحت عنوان "تسريع وتيرة التحقيقات في قضايا الفساد"، تدخل أولاً في إطار "حرب كسر العظام وتصفية الحسابات" بين رئيس أركان الجيش ومعسكر بوتفليقة، وثانياً هي محاولة لإقناع الشارع المنتفض بأن الوضع سيتغير بما يتماهى والمطالب التي سطرها المتظاهرون الذين أبانوا عن ثباتهم على موقفهم وتمسكهم بما خرجوا من أجله منذ 22 فبراير الماضي، وهو ما يبدو جلياً من خلال اللافتات التي يرفعونها، والتي لا تستثني أحداً من رموز النظام بمن فيهم رئيس أركان الجيش، الفريق أحمد قايد صالح. عدم التطرق لوضع السعيد بوتفليقة، في هذه المرحلة الفارقة والمصيرية، يجعل المرء يظن أنه لا يزال ممسكاً بمفاتيح أبواب القصر الرئاسي "المرادية"، وأن أي حل في الأفق لا يمكن إلا أن يمر عبر حلقته التي اتسعت حدودها، وخاصة خلال فترة مرض أخيه عبد العزيز الذي تنحى وهو مقعد فوق كرسي متحرك. • قايد صالح.. الدستور وسجالات الجنرالات لقد سبق وأشرنا في مقالات سابقة نشرت في موقع "الدار"، إلى أن معسكر بوتفليقة قد تغلغل – بما لا يدع مجالاً للشك – في كل دواليب الدولة بما فيها المؤسسة العسكرية، وأنه إذا ثبت أن قايد صالح لا يقوم بدوره كما دأب في عهد ولي نعمته بوتفليقة عندما كان حاكماً بأمره، فإنه ستتم إقالته من طرف الرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح الذي يمارس فعلياً صلاحيات رئيس منتخب (أنظر مقالنا السابق بعنوان: "حراك الجزائر.. هل يُسَارِعُ بن صالح بإقالة أحمد قايد صالح؟"، موقع "الدار"، السبت 20 أبريل 2019)، وهذا ما دفع ببعض الجنرالات، وعلى رأسهم الجنرال المتقاعد حسين بن حديد الذي سُجِنَ في عهد الرئيس بوتفليقة لمدة 10 أشهر دون محاكمة بعد اتهامه ب"قذف مؤسسات دستورية"، إلى توجيه رسالة مفتوحة إلى قايد صالح يدعوه من خلال مضمونها "التحريضي" إلى الإسراع بإيجاد "حل سياسي" للخروج من الأزمة، بعيداً عن الوثيقة الدستورية التي اعتبرها، وفق الرسالة، "مصممة" على مقاس سلطة تحارب كل سعي ديمقراطي. رسالة بن حديد الصادرة يوم الخميس 25 أبريل الحالي، تقول بالحرف إن "الحل يمكن أن يكون سياسيا فقط، ولا يمكن بأي حال أن يكون في دستور مصمم حسب قوة ترفض أي انفتاح ديمقراطي". وتضيف الرسالة في هذا الإطار: "إذا كان الحل الدستوري قد سمح بحدوث إنفراج للأزمة من خلال تفعيل المادة 102، فإن الرغبة في البقاء في إطار هذا الدستور بأي ثمن، يمكن أن تؤدي فقط إلى حالة من الحصار السياسي". بن حديد ناشد أيضا، وبلغة تشبه "الأمر العسكري"، قائد الجيش بالقول: "يجب أن نصغي يا سيد قايد صالح… إلى ما يخبرنا به الشارع". الجنرال المتقاعد الذي قال عن نفسه حين تم الإفراج عنه: "دخلت السجن بالهاتف، وخرجت منه بالهاتف"، يسعى عبر هذه الرسالة إلى "تشجيع" و"تحفيز" رئيس أركان الجيش، وتوجيهه إلى حَلٍّ يُمَكِّنُهُ من أن "يتغذى بغريمه عبد القادر بن صالح قبل أن يتعشى به". تلكم واحدة من سجالات كثيرة لجنرالات متقاعدين عسكريا وفاعلين سياسيين اختار بعضهم الإصطفاف العلني إلى جانب هذه الجهة أو تلك كما حصل لخالد نزار، العدو اللدود للمصالح المغربية، الذي روج من خلال الموقع الإلكتروني الإخباري (algérie patriotique) لخيار يُعَاكِسُ توجه قايد صالح، متهماً إياه بدفع البلاد نحو المجهول والفوضى. غير أن رد رئيس أركان الجيش لم يتأخر، وجاء حاداً وصادماً كصعقة كهربائية مفاجئة، حيث أمر بإغلاق الموقع الذي يشرف عليه نجله لطفي نزار. • وعي الشعب الجزائري والأجندة الإقليمية إن الأزمة الجزائرية لا تتحكم فيها هذه الأطراف المتنازعة وحسب، بل إن هناك مؤشرات قوية على سيناريوهات معدة، وبدأ بالفعل تنفيذها خاصة – كما أشرنا إلى ذلك في مقالاتنا السابقة – أمام الصمت المرعب للدول الغربية الكبرى عن عودة قوية للمؤسسات العسكرية في بعض الدول العربية، إلى درجة أن بعضاً من هذه الدول تشتغل بوجه مكشوف وآخر خفي، ونخص بالذكر فرنسا التي يُشَارُ إليها بأصابع الإتهام في دعم اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، وهو إتهام يؤكده ضبط 13 دبلوماسياً فرنسياً مدججين بأسلحة خفيفة ومتوسطة على الحدود التونسية، وهو ما شكل فضيحة كشفت عن الوجه المزدوج للرئيس إيمانويل ماكرون الذي يَدَّعِي علناً أنه يساند الشرعية في طرابلس ممثلة في حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، بينما على الأرض وفي الخفاء، يتآمر على هذه الشرعية من خلال تقديم المساعدة اللوجستية والتقنية والإستخباراتية لميلشيات حفتر، وهذا ما يذكرنا بالمقولة العظيمة والشهيرة لعمرو بن العاص، واحد من دهاة العرب الأربعة، والتي قالها قبل معركة صفين: "قلبي مع علي، وسيفي مع معاوية". إن الجزائريين أبانوا عن وعيهم الكبير بما يُحَاكُ ضد بلادهم في محاولة لفرض "السيناريو المصري"، الذي يُسْتَنْسَخُ حاليا في السودان ويُرَادُ له أن يكتسح ليبيا، وذلك من خلال ترديد شعارات قوية ورفع لافتات كبيرة تطالب برفع يد فرنسا عن الشأن الداخلي لبلدهم، ورفض تنفيذ أية أجندة إقليمية من طرف من أسماهم الرئيس التونسي السابق المنصف المرزوقي ب"محور الشر العربي"، حيث قال في حوار تلفزيوني مع قناة "الجزيرة" إن "السعودية والإمارات ومصر تحاول مواجهة الربيع العربي بكل الوسائل خدمة لإسرائيل والغرب". وعلى ذكر إسرائيل، لا يفوتنا أن نُذَكِّرَ بما نُسِبَ إلى وزيرة العدل الإسرائيلية إيليت شاكيد التي قالت، في لقاء مع لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية التي تسمى اختصاراً "آيباك"، إن "المغاربة والجزائريين والتونسيين جهلة وحمقى، ويستحقون الموت"، وإن لإسرائيل "خطة لتدمير هذه البلدان الثلاثة في وقت ما"، وهو تصريح نشرته العديد من وسائل الإعلام العربية والدولية، ولم يليه أي رد فعل من أية دولة معنية بهذا الخطاب الفاشي والعنصري. يضاف إلى ذلك، ما يُقَالُ صراحة وما يُنْشَرُ علانية حول التقارب المريب بين إسرائيل وبعض دول الخليج العربي وخاصة الإمارات التي يُقَالُ إن للفلسطيني محمد دحلان اليد الطولى في هذا التقارب الذي يشمل أيضا السعودية والبحرين وسلطنة عمان وبلدان عربية أخرى لا يتوانى بنيامين نتانياهو في التبجح، حد السخرية، بسعيها الواضح إلى "التقرب من تل أبيب"، والإبتعاد عن القدس الشريف وفلسطين المحتلة والمغتصبة. • السيسي.. و"التشاور" حول ليبيا والسودان؟ لقد احتضنت القاهرة مؤخرا "قمة تشاورية" حول الأوضاع في السودان وليبيا، وهو اجتماع عُقِدَ مباشرة بعد تبرع السعودية والإمارات بثلاثة ملايير دولار دعماً وتأييداً للفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الذي بَرْهَنَ، على طريقة عبد الفتاح السيسي، أنه أهل لحيازة "الثقة" بعدما انقلب على حَلِيفِهِمَا السابق عمر البشير الذي كان خير داعمٍ للرياض وأبوظبي في مخططاتهما الإقليمية المغلفة بشعار فضفاض يروج، ظاهرياً، لخطاب الدفاع عن "استقرار دول الجوار والحلفاء العرب". وعلى ما يبدو، فإن "قمة القاهرة التشاورية" كانت بمثابة "شيك على بياض" و"تفويض" لحاكم مصر بعد أن قَبِلَ أن يكون أداة تنفيذ طيعة للمخططات السعودية والإماراتية التي تحاول جاهدة الضغط على دول عربية محورية أخرى بغرض دفعها للإنضمام إلى هذا المخطط الجهنمي في إطار تَمَثُّلِ مقولة بوش الإبن الشهيرة: "مَنْ ليس معي، فهو ضدي". فهل هي صدفة أن تتزامن تصريحات وزيرة العدل الإسرائيلية مع هذه الخطوات الخطيرة؟ وهل هناك مخططات تشمل دول المغرب العربي تكون بوابتها ليبيا، خاصة بعد إعلان خليفة حفتر عن الحملة العسكرية الثانية في سعيه لبسط يده على طرابلس العاصمة وباقي التراب الليبي الشاسع؟ وهو ما كان ذهب إليه أحمد قايد صالح عندما قال في خطاب متلفز (الخميس 18 أبريل 2019)، إن: "قوى كبرى تعمل على إعادة صياغة خريطة العالم على حساب حرية الشعوب وأمنها وسيادتها الوطنية. إن العالم يموج بتحديات كبرى ومتغيرات تقف وراءها أيادٍ وقوى كبرى تعمل لتشكيل العالم وفقا لمصالحها". ويرى العديد من المراقبين العرب والدوليين أن أقوى رد على هذا التوجه الخطير الساعي إلى إعادة صياغة المشهد وترتيبه في المنطقة، وفق الأجندة السعودية والإماراتية المدعومة من سيسي مصر، هو الموقف المغربي بقيادة جلالة الملك محمد السادس الرافض، في الماضي والحاضر والمستقبل، لكل تدخل خارجي في الشؤون الداخلية للدول ولأي مساس بالسيادة الوطنية وبالوحدة الترابية، وهو ما لم تستوعبه الرياض وأبوظبي، فبدأتا بالتحرش السياسي والإعلامي بالمغرب من خلال تجنيد بعض قنواتهما الفضائية (العربية، سكاي نيوز عربية…) لبث تقارير تلفزية مغرضة ومسيئة أعدت خارج غرف الأخبار، وهو تحرش يُعَاكِسُ المصالح الوطنية المغربية في تناقض صارخ مع المواقف التي عَبَّرَتَا عنها رسميا في بلاغات ومناسبات كثيرة أبرزها الزيارات الرسمية المتبادلة على أعلى مستوى. • هل بدأت مصر تعاكس مصالح المغرب؟ إنه سؤال مشروع نجد جوابه، واضحاً وساطعاً، في انعقاد الدورة العادية الثانية للجنة الفنية المتخصصة التابعة للإتحاد الإفريقي حول "النقل والبنية التحتية العابرة للقارات والأقاليم والطاقة والسياحة" التي احتضنتها القاهرة موخراً (من 14 إلى 18 أبريل 2019)، حيث سَمَحَ عبد الفتاح السيسي، الرئيس الحالي للإتحاد الإفريقي، بحضور "الجمهورية الشبح" أشغال هذه الدورة؟! فهل سَتَتْبَعُ هذه الخطوة المصرية خطوات إستفزازية أخرى تذهب في اتجاه تغذية الحملة المسعورة التي تشنها الرياض وأبوظبي على الرباط؟! إن المغرب ما فتئ يؤكد على أن يده ممدودة لكل تعاون "عربي – عربي" من شأنه المساهمة الحقيقية في النهوض بأوضاع الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، والرقي بمستوى العلاقات إلى ما هو إستراتيجي، وليس فقط ما هو مرحلي، وهو طموح نرجو من الأشقاء في الخليج أن يعملوا من أجل تحقيقه، وأن يترفعوا عن تصفية الحسابات الضيقة وضرب المصالح الوطنية والوحدة الترابية للأقطار العربية، والمضي قدماً في تنفيذ ما سطر من إتفاقيات وبرامج للتعاون المشترك. حاليا تجد المنطقة العربية نفسها محاصرة بأزمات حارقة حتمت عليها المشي الإضطراري فوق "برميل بارود" قابل للإشتعال قد يكون له ما بعده من كوارث لا قدر الله. ولذلك، فإن الواجب يقتضي التحلي بالحكمة وتغليب المصالح المشتركة للأوطان على بعض المخططات التي قد يكون لجهات معادية اليد المباشرة فيها، بما يلحق تشتيتاً أكثر وتمزيقاً أخطر للجغرافية العربية خاصة في مثل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها الجزائر، وهي ظروف من شأنها أن تزيد الطين بلة إذا لم يتم التوافق على مخرج سياسي يرضي الشارع المتماسك والمصر على "كل شيء أو لا شيء"، وأي تأخير في إيجاد حل متوافق عليه قد يكون مرحلياً على شاكلة "السيناريو المصري"، قد يقود الجزائريين إلى الفوضى التي تأتي على الأخضر واليابس، وهو مآل كارثي نطلب من الله عز وجل أن يبعده نهائياً عن الشعب الجزائري الشقيق الذي يدافع عن حقه المشروع في بناء دولة مدنية وديمقراطية. الحراك الشعبي الجزائري مستمر ويراكم، يوماً بعد يوم، الضغط القوي على مختلف التيارات المتصارعة بهدف فتح صفحة جديدة في التاريخ المعاصر للبلد. أما "السيناريو المصري"، مؤازراً بمكسب "نسخته السودانية"، فقد أبانت التطورات الأخيرة في بلاد النيل أنه سيستمر إلى غاية… ما في علم الله. *صحافي وباحث