الجهود الدبلوماسية الجبّارة التي يبذلها فرحات مهني زعيم "جمهورية القبائل المحتلة" من أجل التعريف بقضية الشعب القبائلي ومطالبه وحقوقه التي هضمها نظام العسكر تكاد تكون جهودا استثنائية وتاريخية بالنسبة لقضية هذا الشعب المضطهد، والذي يصبو إلى حريته. لنتأمل قليلا ما يحدث في الجزائر، هناك شعب أمازيغي عريق يحمل ثقافة متوارثة منذ مئات السنين ويتعرض لإقصاء وتهميش مقصودين من طرف نظام فاسد ومستبد لا يؤمن بمبدأ الحقوق الثقافية التي يجب أن تتمتع بها الأقليات، فضلا عن الأغلبية. فنحن لا نتحدث عن أقلية ديمغرافية محدودة وإنما عن شعب يكاد يناهز 50 بالمائة من ساكنة الأراضي الجزائرية. هذا الشعب يطالب منذ عقود طويلة باعتراف رسمي بثقافته ولغته يتجاوز مسألة الدسترة الشكلية ومساواتها على الأقل بنظيرتها العربية. وفي انتظار تحقيق هذا المطالب التي طال انتظاره، يواجه المواطنون القبايليون نهجا من العنصرية والتهميش المقصود من طرف الدولة، التي لطالما ساومتهم بمنحة الدسترة لسنوات طويلة من أجل ربح الوقت وتحقيق غايات سياسية وانتخابية ظرفية. فعلى الرغم من المكانة الرمزية التي يعطيها الدستور الجزائري للغة الأمازيغية إلا أنها ظلت لغة من درجة ثانية حتى على مستوى ترتيب الإشارة إليها في هذه الوثيقة بها. ووسط هذا الوضع المستفز بالنسبة لشعب عريق كهذا الشعب، ينتظر النظام العسكري أن يستمر الصمت وأن يترسخ الخوف ويرضى القبائليون بما يمنح لهم بين الفينة والأخرى من فتات الوعود التي لم تستطع السلطة أن تنفذ منها ولو نزرا يسيرا. في ظل هذا الواقع المتخلف في التعامل مع التنوع الثقافي داخل بلد كالجزائر، تصبح المطالب الاستقلالية لمنطقة القبائل ذات مشروعية كبيرة وممتدة. يكفي أن يتم إطلاق استبيان للرأي في أوساط الجزائريين من أصول قبائلية، وخصوصا المقيمين منهم بالخارج، ليتبين أنهم لم يعودوا فعلا يقبلون الخضوع لفَشَلين مركبين. نعم، فوضع الشعب القبائلي أسوأ بكثير من باقي فئات الشعب الجزائري. هناك مظلمتان مسجلتان في حقه. من جهة يعاني من الاستبداد وغياب التنمية ونهب الثروات مثله مثل باقي الجهات والأعراق الجزائرية الأخرى، وفوق هذا الظلم الاجتماعي، ظلم ثقافي ولغوي وتاريخي يهضم هذا الشعب حقّه في رؤية لغته وهي تدرّس في المؤسسات التعليمية أو تستعمل في الإدارة أو على الأقل في إشارات المرور واللافتات المعلقة في الميادين العامة. ما الذي سيضير العسكر إذا ما حوّلوا اللغة الأمازيغية إلى ورش ليتم تفعيل وجودها الدستوري في الواقع وفي المؤسسات الجزائرية؟ هل تعرفون لماذا لا يقْدم العسكر على هذه الخطوة؟ هناك سببان رئيسان: السبب الأول، سبب انتخابي، فهذا التفعيل للطابع الرسمي للغة الأمازيغية القبائلية ورقة يعلب بها الجيش في مختلف المحطات الانتخابية، إذ تنظر السلطات الجزائرية باستمرار إلى منطقة القبائل كخزان انتخابي لا أقل ولا أكثر، تساوم سكانها من أجل المشاركة في "الأعراس الديمقراطية" التي يصنعها العسكر ويديرونها. والسبب الثاني سبب نفسي. نعم إنه الخوف من قوة الثقافة والإرث التاريخي الذي تمثله الأمازيغية بالنسبة للشعب القبائلي. يخاف الكابرانات من أن يتحول الحضور الثقافي العادل للثقافة واللغة الأمازيغية إلى عامل ضغط اجتماعي ضد هذا النظام. لا يجب أن ننسى أن جلّ الحركات الحقوقية والسياسية المطالبة بمدنية الدولة وبدمقرطة النظام كانت ولا تزال تخرج من هذه المنطقة التي تمتلك تاريخا طويلا من النضال ضد العنصرية والاستعمار والإقصاء والتهميش. ولأن للثقافة وطأتها ونفوذها الجارف فإن نظاما عسكريا كرتونيا كنظام شنقريحة يرتعش ويرتعد من مجرد شعار ثقافي يطالب بالإنصاف الثقافي لفئة وعرقية جزائرية وازنة. أما المطالب المتنامية اليوم باستقلال هذه المنطقة عن سلطة العسكر في الجزائر فإنها تمثل كابوسا لهذا النظام الذي استنزف رصيد الشرعية المزيفة التي كان يقتات عليها بسبب ممارساته وسلوكاته المتناقضة خارجيا وتجاه جيرانه على الخصوص. لكن هذا المصير الاستقلالي لمنطقة القبائل هو القدر الذي ينتظر هذا البلد ما دامت هناك سلطة عسكرية متخلفة تبيح لنفسها التدخل في استقرار ووحدة تراب دولة أخرى بينما تفرض هي سلطتها على شعب عريق بالقوة والحديد والنار.