أعادت رسالة عمر هلال، السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الأممالمتحدة، لرئاسة دول عدم الانحياز، إلى الواجهة بقوة قضية تقرير مصير "القبائل" المنطقة ذات الأغلبية الأمازيغية وذات الكثافة السكانية العالية التي لا يعتبر الكثير من أبنائها أنفسهم "جزائريين"، على اعتبار أنهم أسسوا إماراتهم المستقلة هناك منذ القرن ال14 وقبل قرون من ميلاد الدولة الجزائرية الحديثة. وأبانت ردة الفعل الرسمية والحزبية والإعلامية في الجزائر، وخاصة استدعاء السفير الجزائري من الرباط، أن هذه القضية ذات حساسية بالغة بالنسبة لقصر المرادية، فالأمر يتعلق بحركة انفصالية تكافح بقوة للخروج من الحصار السياسي والأمني والإعلامي، إذ إلى جانب الدعم الدبلوماسي الذي لوح المغرب لأول مرة بتقديمه لها أصبح لها صيت متزايد عبر وسائل الإعلام الدولية بسبب الحراك الاحتجاجي النشيط فيها وأيضا بعد مقاطعة سكانها للانتخابات التشريعية بشكل شبه كامل. طموح الاستقلال منذ 7 قرون وبالنسبة للحركة من أجل تقرير المصير في القبائل التي يقودها فرحات مهني من فرنسا، والتي أُنشأت منذ أزيد من عقد من الزمن "حكومة منفى"، لا يعتبر القبائليون أنفسهم جزائريين، وهو الأمر الذي تعود أصوله إلى القرن الرابع عشر، عندما بدأت العديد من المناطق تستقل عن سلطة الدولة الزيانية التي ظلت تحكم أقصى شمال جُغرافيَا الجزائر الحالية خلال الفترة ما بين 1236 إلى حين سقوطها نهائيا سنة 1556. وشرع القبائليون في تأسيس إماراتهم المستقلة في المناطق الناطقة بالأمازيغية، غير أن طموحهم في الاستقلال لم يعمر طويلا، حيث إن المنطقة التي كانت مطمعا للعديد من القوى التوسعية، لإطلالتها الساحلية على البحر الأبيض المتوسط، ستسقط في يد العثمانيين بعد انتصارهم الكبير في معركة "باب الواد" على التحالف الصليبي الذي كان يقوده ملك إسبانيا وإمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، كارلوس الخامس. وأصبحت القبائل جزءا من "إيالة الجزائر" منذ القرن 16 إلى حين دخول الاستعمار الفرنسي للبلاد في 1830، ليبدأ فصل جديد من فصول صراع القبائليين من أجل الاستقلال، بلغ ذروته مع الثروة التي قادتها فاطمة نسومر ما بين 1854 إلى تاريخ أسرها وإخماد نضالها المسلح في 1857، ثم ثورة الشيخ محمد المقارني سنة 1871 والتي انتهت بمقتله، وعقب كلتا الثورتين ضمت فرنسا الأراضي القبائلية إلى "الجزائر الفرنسية". ويقول فرحات مهني، رئيس الحكومة القبائلية المؤقتة في تصريحات ل"الصحيفة"، إن أيا من المؤسسات الممثلة للقبائليين لم توافق على هذا "الضم"، سواء في 1857 أو في 1871، مشددا على أن القبائل "كانت دائما مستقلة". اضطهاد بعد الكفاح المشترك وساهمت العديد من الأسماء القبائلية في مقاومة الاستعمار الفرنسي، أبرزها الحسين آيت أحمد، أحد أبرز وجوه جبهة التحرير الوطني، والمزداد في تيزي وزو سنة 1926 والتي سيعود ليدفن فيها عقب وفاته أواخر سنة 2015، غير أن القبائليين الأمازيغ كانوا يرون أن حقوقهم الثقافية مضطهدة وذلك منذ رفض حزب الشعب الجزائري برئاسة مصالي الحاج للاعتراف، بالمكون الأمازيغي كجزء من الهوية الجزائرية، مع التأكيد على "عروبة" البلاد، ما خلق "الأزمة البربرية" سنة 1949. واستمر هذا "الاضطهاد" إلى ما بعد الاستقلال في 1962، خاصة في ظل إقرار نظام "الحزب الواحد" وكان آيت أحمد أبرز المقاومين لهذا التوجه حين أسس حزبا آخر تحت اسم "جبهة القوى الاشتراكية"، الذي سيدخل في صراع مسلح مع الجيش الجزائري حديث النشأة، وستكون منطقة القبائل مسرحا له والذي استمر إلى غاية 1965، أما آيت أحمد فقد ألقي عليه القبض سنة 1964 وحكم عليه بالإعدام، لكنه استطاع الفرار من سجن الحراش سنة 1966 وأصبح أشد معارضي النظام الجزائري، واختار العيش في منفاه بسويسرا إلى أن توفي هناك. لكن صراع القبائليين مع السلطة المركزية لم ينته، ففي سنة 1980 ستحدث إحدى أكثر فصوله تعقيدا، وذلك بعدما تحول منع الروائي القبائلي مولود معمري من إلقاء محاضرة حول الثقافة الأمازيغية في جامعة تيزي وزو، تزامنا مع الاستعداد للاحتفال بالذكرى 18 لاستقلال الجزائر، إلى احتجاجات كبيرة شاركت فيها مختلف فئات المجتمع القبائلي، وفي مقدمتهم النقابيون والطلبة، وذلك للمطالبة بالاعتراف بالأمازيغية كمكون من مكونات الهوية الجزائرية، وهي الاحتجاجات التي واجهتها السلطات بالقمع والاعتقالات. الربيع الأسود ومطالب "الاستقلال" وبدأت النزعة الانفصالية تنمو تدريجيا في منطقة القبائل كرد فعل على القمع الذي يتعرض له النشطاء الأمازيغ، لكن أحداث "العشرية السوداء" ستبعدها عن الأنظار طيلة عقد من الزمن، إلى غاية 20 أبريل 2001، تاريخ مقتل الطالب القبائلي، ماسينيسا قرماح، الذي لم يكن يتجاوز سنه 18 ربيعا، على يد دركي فيما يشبه عملية إعدام جرت داخل مقر الدرك في منطقة بني دوالة قرب تيزي وزو. وحاولت وزارة الداخلية حينها تحميل المسؤولية للضحية، حين زورت تاريخ ميلاده ليبدوا أكبر من سنة وزعمت أنه "لص" كما وصفه وزير الداخلية حينها اليزيد الزرهوني، بأنه "مُنحل"، قبل أن تدفعها الاحتجاجات التي شهدتها منطقة القبائل إلى اعتقال الدركي الجاني ومحاكمته عسكريا، لكن الغضب القبائلي استمر واستمرت معه المظاهرات طيلة عام كامل، فيما عرف حينها ب"الربيع الأسود" الذي ستعامله السلطات بقمع شديد أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 126 شخصا. وسيفرز هذا الحراك ميلاد الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل المعروفة اختصارا ب"الماك" سنة 2001 التي ستطالب باستقلال المنطقة عن الجزائر، وفي سنة 2010 ستُشكل حكومة مستقلة في المنفى الباريسي لقادتها، كما ستطالب الدول الأوروبية، في 2013، باتخاذ إجراءات عقابية ضد الجزائر ردا على قمعها للقبائليين، وفي 28 شتنبر 2017 ستقدم مذكرة للأمم المتحدة لمطالبتها ب"الاعتراف بالحق المشروع لشعب القبائل في تقرير المصير". اتهامات بالإرهاب ومقاطعة للانتخابات وجنت الحركة الأمازيغية في الجزائر عدة مكتسبات بعد تاريخ طويل من الصدام مع السلطة الجزائرية، أبرزها قبول الحكومة لأول مرة سنة 2002 التفاوض مع "حركة العروش" التي كانت تقود احتجاجات القبائل، والاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية في الدستور ثم كلغة رسمية في دستور 2020، لكن ذلك لم ينجح في إخماد دعوات الاستقلال، خاصة في ظل اقتناع العديد من القبائليين بأنهم يعانون من "التهميش الممنهج" ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا. ومع تنامي مطالب الانفصال أثناء الحراك الجزائري، خاصة بعد وصول عبد المجيد تبون إلى الرئاسة وبقاء السلطة في يد الجيش، ستلجأ السلطات إلى تصنيف "الماك" كمنظمة "إرهابية" على الرغم من أنها لا تخوض أي نشاط مسلح، حيث لجأت وزارة الدفاع إلى الحديث عن "اكتشاف مؤامرة خطيرة تستهدف البلاد وتقف وراءها خلية انفصالية كانت تخطط لتنفيذ تفجيرات وجرائم وسط مسيرات الحراك". وفي المقابل كان القبائليون يعلنون تدريجيا القطيعة مع السلطات الجزائرية، ليس فقط من خلال المسيرات الاحتجاجية، ولكن أيضا أثناء الانتخابات الرئاسية في 12 دجنبر 2019 والاستفتاء على التعديلات الدستورية في فاتح نونبر 2020 وأخيرا الانتخابات التشريعية في 12 يونيو 2021، والتي بلغت نسب مقاطعتها في منطقة القبائل نسبا قياسية، دفعت فرحات مهني للقول إن "رغبة الشعب القبائلي في الاستقلال اليوم أكبر من أي وقت مضى".