ضيف هذا العرض كتاب صدر منذ أشهر، ونزعم أن العديد من دول المنطقة، قد تفكر في نشر أعمالاً من الطينة البحثية والجمالية المركبة التي جاءت فيه، بصرف النظر عن الفوارق المنتظر التي يتميز مضامين هذا الكتاب مع أغلب الكتب الأخرى الخاصة بباقي دول المنطقة، لاعتبارات عدة، ما دام الموضوع المقارنة بين تاريخ تأسيس الدول المغاربية والعربية، هو أن الأمر هنا بالنسبة للحالة المغربية، يهم دولة عمرها 12 قرناً على الأقل، بخلاف أغلب دول المنطقة. حديثنا عن كتاب يحمل عنوان "من أجل دار تاريخ المغرب"، والذي انتظرنا سنوات حتى يصدر، لأنه في الأصل، تجميع للمداخلات التي ميزت أعمال الندوة الدولية التي نظمتها أكاديمية المملكة حول هذا الموضوع بمشاركة باحثين مرموقين مغاربة وأجانب، وجاء موزعاً على 555 صفحة، بالعربية والفرنسية (هناك دراسات ومقالات بالعربية، وأخرى بالفرنسية)، مع الإشارة إلى أن التنسيق العلمي لأشغال الندوة وبالتالي مضامين الكتاب، أشرف عليه محمد كنبيب، وصدر العمل في حلة أنيقة معززاً بصور تبرز مختلف المؤهلات التي يتوفر عليها المغرب. في المساهمات العربية مثلاً، نقرأ الأسماء التالية: عبد الجليل لحجمري، إدريس اليازمي، أحمد التوفيق، محمد كنبيب، عبد الحق المريني، رحال بوبريك، محمد أمطاط، خالد بن الصغير، الجيلالي العدناني، مصطفى الشابي، لطيفة البوحسيني، بهيجة سيمو، محمد الحاتمي، البشير تامر. أما في المساهمات الفرنسية، فنقرأ إضافة إلى الثلاثي عبد الجليل لحجمري، إدريس اليازمي ومحمد كنبيب (الذي شارك بثلاث مساهمات)، كلاً من عبد السلام الشدادي، ليلى مزيان، مينة المغاري، محمد حبيدة، لوسيت فالانسي، عبدو الرحمن سيك ونازارينا لانزا (مادة مشتركة حول العلاقات التاريخية بين المغرب والسنغال)، إدموند بورك، علي أمهان، وداد التباع، جان روبير هنري، دانيال شرورتير، جامع بيضا، إدريس المغراوي، محمد بيان، محمد أفاية، مصطفى أمي كبير وياسمين بيان. وقّعَ مقدمة الكتاب أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، عبد الجليل لحجمري، حيث اعتبر أن مشروع تأسيس "دار تاريخ المغرب" الذي دشنه المجلس الوطني لحقوق الإنسان عندما كان يترأسه إدريس اليزمي، جاء تزامناً مع التوصيات التي أصدرتها آنذاك هيئة الإنصاف والمصالحة، مضيفاً أن هذا المشروع الذي يستحق إخراجه للوجود، لا يستمد شرعيته فقط من التوصية المشار إليها فحسب، ولكن أيضاً من الطلب الاجتماعي الملح الساعي إلى تناول هادئ لمجريات ماضي المغرب والحاجة إلى كتابة أو إعادة كتابة تاريخية بأكبر قدر من الموضوعية، خاصة أنه خضم الندوة المذكورة والحماس الذي تلاها، حيث أنجزت دراسة أولى للجدوى لتحديد ملامح وأسُس وحدود هذا المشروع. ولكي يتسنى للمسؤولين رفع هذا التحدي ولصانعي القرار المعنيين بشؤون التراث على الخصوص تقييم مدى ملاءمته، قرّرت أكاديمية المملكة المغربية نشر أعمال اليومين المكثفين من التفكير والاقتراحات والتأملات، فجاء الكتاب ليُترجم هذه الإرادة. كان أحد أهم أهداف تنظيم تلك الندوة الدولية، التفكير الجماعي في أهمية إنشاء مؤسسة "دار تاريخ المغرب"، لتمكين الأجيال المتعاقبة من معرفة المزيد عن تاريخ بلادهم العريق الممتد عبر قرون إلى الوقت الحاضر والكشف عن مدى تنوع مكوناته وبالعودة إلى المخططين والباحثين الذين اجتمعوا للنظر في الغابات البعيدة للمشروع وحيثيات تفعله. ويرى عبد الجليل لحجمري في هذه الجزئية، أن هذه المؤسسة ستشكل أداة تعليمية وديداكتيكية تجسدها لوحة زمنية، مسترسلة كانت أو متقطعة لجمل عصور التاريخ، غير أن عليها أن تعكس ديباجة دستور 2011 التي حدّدت الهوية الوطنية في تعدديتها وعمق ترسخها والفخر الذي تلهمه لدى المواطنين المغاربة. وقد جاء فيها أن: "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية". من جهته، كتب ادريس اليزمي، الرئيس السابق للمجلس الوطني لحقوق الانسان (مارس 2011 – دجنبر 2018) في تقديمه للكتاب المعزز بصور عالية الجودة، أنه على المستوى الأكاديمي يجب الحفاظ على الجهود المبذولة في مجال التاريخ المعاصر على الخصوص (التكوين في الدكتوراه والمعهد الوطني للزمن المعاصر)، والتاريخ على وجه العموم (المعهد الملكي) مع العمل على تطوير تلك الجهود، معتبراً أنه بخصوص العلاقة بين التاريخ والأرشيف والحقوق، فإن المغرب يُجسد حالة خاصة، لأن التجربة الأرشيفية في المغرب خرجت من رحم تجربة القضاء الانتقالي، التي كشفت عن التأخر في هذا المجال. وباستثناء بعض الأرشيفات النادرة التي كانت تضم نتفاً من المعلومات، كانت الأرشيفات العمومية شبه منعدمة، مما يجعل عمليات البحث بالغة الصعوبة. وكثيراً ما تم الاعتماد على ذاكرة مختلف الشهود من أجل إثبات ما حدث. أما الأرشيفات الخاصة السياسية والنقابية والجمعوية يضيف اليزمي، فكانت هي أيضاً ضعيفة جداً أو منعدمة. وقد وضعت هيئة الإنصاف والمصالحة لهذا السبب توصية في تقريرها النهائي، تدعو إلى تبني قانون حول الأرشيفات وإحداث هيئة عمومية مخصصة لهذا الغرض، وبالفعل، تمّ التصويت على قانون بهذا الخصوص، وتم إحداث المؤسسية وتعيين مدير لها في شخص المؤرخ جامع بيضا. وقد أبانت الهيئة منذ إنشائها عن نشاط وفعالية. إشارة أخرى جاءت في كلمة اليزمي، مفادها أن القصد من هذه المبادرة الخاصة بتأسيس دار تاريخ المغرب، ليس تقديم ماض جامد لا يتغير، وليس فيه عيوب ولا انقطاع، وإنما ما ندافع عنه هنا هو تاريخ منفتح على القراءات المتعددة، تتم مراجعته دون انقطاع، لا تاريخ الحواجز التي تحدد هويتنا بصفة نهائية، بل تاريخ للتفاعلات والمبادلات لا يرفض تساؤلات الحاضر، وإنما يساهم على عكس ذلك في إضاءة تلك التساؤلات من خلال التدريس والبحث، وفي تنسيبها وإعطائها بُعداً إنسانياً حقيقياً. بالنسبة لأحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، فقد ساهم هنا وهو يحمل قبعة المؤرخ، معتبراً بداية أن الدرس التاريخي المؤلَف على أساس قواعد الموضوعية التاريخية، أي استقصاء المعلومات التي في المظان وقراءتها لمجهود احترافي في التحليل، ليس يطمح إلى إصدار الأحكام، إذ هدفه معرفة ما وقع وكيف وقع، وإظهار العلاقة بين مستويات الوقائع الثقيلة الأثر في التوجيه، كالاقتصاد والسياسة والفكر، حتى تتبين من هذا العرض بشكل تربوي عميق ومؤثر ومرجعية قيمية واضحة، أنواع الإنصاف والظلم على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، معتبراً أن هذه الأرضية النظرية لا تتنافى مع بناء الأسطورة أو مع التعبئة لحماية الوطن وبناء التميز الثقافي، بل وحتى بناء الدولة كمؤسسة تعبر عن إرادة توفير شروط البقاء والتساكن، ولو على أساس مفارقة يقترن فيها عن الحب بعنف الكراهية. إشارة دالة تضمنتها مساهمة التوفيق مفادها أن أسلم توجه لبناء مُجد على أساس التاريخ، منفلت إلى حد أقصي من براثين الإيديولوجيا، هو التوجه إلى التاريخ الثقافي، وهو توجه يُلائم في حالة المغرب، بناء هوية متميزة على أساس تنوع الموارد والعطاءات، ما بين أصلي ووارد إفريقي أو متوسطي أو مشرقي عبر موجات فينيقية أو عبرية أو عربية، وأوروبي روماني ووندالي وإيبيري وأندلسي متأخر، وهي موارد مترادفة زادت تشكيلة البيئة زخماً وتنوعاً ثقافياً بين الحواضر والبوادي، بين الصحراء والواحات، وبين السهول والجبال، بين الأمازيغي المتعدد الأطراف والعربي المتنوع في أنماط العيش، بين المستقر الأقدم، وبين الظاعن الحديث الاستقرار، بين الذين يركبون الإبل وبين الذين يربون الخيل أو البغال، وقد عبر الطبخ في لوحات عبر طريقة تحضير الأطباق الثلاثة التقليدية، وتفرعاتها في أنواع الشواء والدجاج والكسكسو. كما أكد التوفيق على أن الشعور السائد الآن هو تعرف المغربي على هويته وتميزه في وجوه من الثقافة كثقافة العمارة واللباس والطبية والفنون، وهي ثمرات تدلت لنا قطوفها من التاريخ، مضيفاً إشارة تحيل على مسؤوليته في تدبير الوزارة، مفادها أن حديثه في مناسبة سابقة عن الثوابت الدينية، كان مرده التفكير في جانب من التميز داخل الإسلام وفي تطابق مع تنوع اجتهاداته، إذ أن كل هوية إنما تظهر أصالتها بقدر إسهامها في الحضارة الكونية من جهة، وفي هوية الحضارات الفرعية التي تنتمي إليها في السلم الكوني من جهة أخرى. وبمعنى آخر، فعندما يكون أي مغربي أمام لون من ألوان هذه الثقافة في مناسبة بالخارج، فإنه يتعرف على نفسه فيه، وعندما يكون في محله في قرية أو قبيلة أو مدينة، فإنه يجد نفسه أكثر تجاوباً مع تجليات ثقافة محلية، وهذه الهرمية هي المرقاة إلى التجاوز المطلوب بالنسبة للأزمات التي تقترن في الغالب ملابسات العلاقات السياسية في الداخل. وهي أزمات عادية في دينامية تاريخيته، ولكي لا تؤدي إلى التعثر المخل أو الإفلاس في كيان الأمة، فلا بد أن توازيها نضت و التاريخ الثقافي، مدعومة بالنقد الذي تحضر فيه جوانب التاريخ السياسي والاجتماعي. من جهته، اعتبر عبد الحق المريني مؤرخ المملكة أن العودة إلى تاريخنا أمر هام لمعرفة عن أهمية رجالاتنا وأمرائنا، وعزائم أسلافنا وأعلامنا، وكيف دافعوا عن وحدة عقيدتنا، وحموها من البدع والخرافات والأوهام، وكيف أخلصوا النية في حماية هذا البلد الأمين وحفظه من أخطار المتآمرين على وحدته وكيانه، وفي الصد عنه ضد طمع الطامعين وهول المغيرين وعبث العابثين، خاصة أن أهل المغرب اشتهروا بالإقدام وحُب الجهاد من أجل الدفاع عن النفس والمحافظة على سلامة البلاد. حيث همُّ كل دولة مغربية ناشئة هو بسط سلطتها على مجموع البلاد المغربية، ونشر الرسالة الإسلامية، ومحاربة أهل البدع الراغبين في تأسيس الكيانات المستقلة، ثم التفكير بعد ذلك في التوسع جنوباً أو شمالاً أو شرقاً لتميم نشر الرسالة الدينية الإصلاحية الموحدة، أو للدفاع عن كيان البلاد ورد الهجمات على حدودها وشواطئها. وقد تضمنت مداخلة عبد الحق المريني وقفات مع تاريخ الدول التي حكمت المغرب، منذ حقبة المولى إدريس بن عبد الله بن الحسن، حتى حقبة الدولة العلوية، مروراً بالمرابطين والموحدين وغيرهم. نُنهي هذا العرض بخاتمة مساهمة المنسق العلمي للعمل والمبادرة، محمد كنبيب، والذي يرى أن تنوع ما يحمله مفهوم الدار من معاني وما يزخر به من دلالات لغوية ولسانية وتاريخية وأنثروبولوجية وثقافية وسياسية، أمر يبعث على التفاؤل ويفتح آفاقاً خصبةً ومشجعةً أمام الباحثين والمهتمين، مضيفاً أنه على الرغم من كوننا لازلنا في الأطوار الأولى من تدارس هذا المشروع الهام، فإننا نتصور هذه الدار على شكل دار مفتوحة الأبواب والنوافذ، مرحبة بالجميع، مواطنين مغاربة وزواراً أجانب. مقام يكون فضاءً ثقافياً للعرض والتواصل، يضع أمام الوافدين عليه أدوات لفهم تاريخ المغرب وفرص لإثارة تساؤلات ونقاش حول مختلف جوانبه، اعتماداً على الوثائق، والمؤلفات، والصور، واللوحات، والنحوت، والأشرطة الوثائقية ومقاطع من الأفلام، والتسجيلات الصوتية، وكل ما من شأنه الإسهام في استيعاب تاريخ بلادنا على أسُس عقلانية، وتأمل الماضي والحاضر، ولم لا، الاطمئنان على قدراتنا على رفع تحديات المستقبل على غرار صمودنا أمام تحديات الماضي.