للحديث عن الصحافة الإلكترونية كشكل من أشكال عولمة الاعلام والمعلومة، يجب أن نستحضر السياق الذي برزت فيه كحاجة ملحة، في ظل احتكار الدولة بكل مؤسساتها للمعلومة والخبر باعتبارهما رأسمالا يحوز سلطة ظاهرة وسطوة مضمرة، وهو احتكار ارتبط بالدرجة الأولى بالصحافة المكتوبة والإعلام التقليدي عموما، مما جعل هذا النوع من الإعلام ينهار بفعل التضييق والمنع من الوصول إلى المعلومة، كما هو حال الصحافة المكتوبة بالمغرب، وعموم البلدان العربية بشكل عام، خاصة وأن هذا الاحتكار لا ينفصل عن أسس السلطة والحكم، المرتبطة بالاستثمار في الخوف والغموض، اللذان يميزان الأنظمة السياسية والدولتية" الثالثية' المعاصرة باختلاف الدرجات. وإذا كان الاعلام الجماهيري التقليدي قد ارتبط بالدولة الوطنية، فإن بروز الإعلام الالكتروني، بكل ما رافق ذلك من شبكات التواصل الاجتماعي، وانتفاء الشروط التقليدية للدولة الوطنية، قد جعل هذه الأنظمة في مواجهة إعلام بديل، بقدر ما عانى من التضييق على مصادر المعلومة التي ارتبطت بشكل وثيق بمصادر الدعم والتمويل في الاشهار والتواصل، بقدر ما تحول هو نفسه إلى مصدر للمعلومة، التي باتت الدولة نفسها في أمس الحاجة إليها، بعدما فقدت حق الاحتكار المنفرد للخبر، ذلك أن مفهوم الدولة الوطنية في ظل العولمة قد تراجع لصالح انتفاء حدود المؤسسات واحتكار المعلومات،إذن في ظل هذا المناخ السياسي بالدرجة الأولى، وقبل ميلاد الإعلام الالكتروني، متأثرا بالمواقع والمنابر الخبرية الرقمية الدولية، برزت في الساحة المغربية كما هو الحال بالنسبة إلى عدد من الدول العربية ما سمي بالصحافة المستقلة، كتجل حقيقي لموت الصحافة الحزبية من جهة، وتلبية الحاجة إلى المعلومة اجتماعيا وسياسياً، في ظل التحولات المجتمعية التي عرفها المغرب في ارتباط بالتحولات الدولية وتبني السجل الحقوقي الإعلامي، حيث ملأت هذه الصحافة- المستقلة عن السلطة- الفراغ الذي تركته الصحافة الحزبية. ولأن مفهوم الاستقلالية في مجال الإعلام والمعلومة هو مفهوم نسبي، يخضع لاشتراطات وإواليات ترتبط بالدرجة الأولى بطبيعة النظام السياسي، فإن الصحافة المستقلة نفسها أصبحت عاجزة عن تلبية حاجة المواطن إلى المعلومة في زمن بقيت فيه الإدارات والمؤسسات الرسمية الناظم المركزي لتداولية المعلومة، وفق نموذج احتكاري لا تجد معه وزارة الاتصال سوى العمل على ترسيم هذه السياسية والدفاع عنها، في الوقت الذي أصبحت فيه قنوات الحصول على المعلومة مرتبطة بمدى احترافية الصحفي وحجم علاقاته بمختلف مؤسسات الدولة، وبخط تحرير الجرائد التي بقيت تحت رحمة طبيعة النظام السياسي في تماه مع عالم المال والاعمال، خاصة في ظل ارتهان السياسي للاقتصادي من جهة، وزواج المال والسياسة حزبيا وحكوميا من جهة أخرى. لقد عملت اللوبيات الاعلامية- الاقتصادية، عبر استراتيجية الإعلام والاشهار من جهة، والمتابعات القضائية من جهة ثانية، كما لا تزال على تضييق الخناق على الصحافة المستقلة، وفي هذا السياق نستحضر حجم المتابعات والأحكام التي كان ضحيتها عدد من المنابر الأسبوعية، واليومية، ولذلك بات أمر الكتابة حوللوبيات الفساد الإداري والمالي والسياسي، وفشل سياسات الدولة في عدد من الأوراش التي أبت ألا تكتمل، يقتضي الحصول على المعطيات والوثائق لكي يستقيم التحليل الصحفي، وهو ما كانت تقوم به الصحافة المستقلة التي وُفِقَت إلى حد لا بأس به، لكنها بقيت عاجزة عن الحصول على المعلومة الحساسة الكفيلة بتنوير الرأي العام في القضايا الجوهرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأمام تعطش الرأي العام وعدد كبير من الأقلام التي باتت تشعر بحيف كبير في حقها في الخبر والمعلومة، بدأت عد من المدونات الإلكترونية في الظهور، حيث تنتفي الكثير من الإراهات التي تخنق الصحافة المكتوبة في التعبير والنقد. هكذا كانت البداية كرد فعل موضوعي ناتج عن تقلص مساحة حرية التعبير والحق في الوصول إلى المعلومة، والتضييق على الصحافة المستقلة، خاصة أمام فشل الصحافة الحزبية والإعلام الرسمي في تلبية حاجة المواطن إلى المعلومة، وفشل المشهد السياسي في تكريس الخيار الديموقراطي، وفي هذا السياق نستحضر توقيف وحجز أسبوعيتي تيل كيل " بالفرنسية"ونيشان " بالعربية" في غشت 2009، ومحاكمة مدير جريدة المساء في أكتوبر 2011 بالسجن سنة نافذة… إلخ من الأحداث والوقائع المرتبطة بالصحافة والإعلام بالمغرب، وأمام تدني مستوى المبيعات الخاصة بالصحف الورقية، سواء كانت يوميات أو أسبوعيات، وتجفيف منابع الدعم المتعلق بالإشهار، وإعادة توجيهها بما يخدم مصالح البعض دون البعض الآخر، وتأثير شبكات التواصل الاجتماعي، والطفرة الرقمية التي عرفتها البلاد، بارتفاع عدد الهواتف الذكية من جهة، وعدد المنخرطين في خدمة الأنترنيت من جهة أخرى، سرعان ما سوف تظهرتدريجياً جرائد إلكترونية ضمنت حداً كبيراً من التفاعل الجماهيري، خاصة في ظل غياب الرقيب الرسمي، وهي الجرائد التي كانت في مستوى التحولات الكبيرة والمتسارعة التي تعرفها البلاد، كما كانت من بين أهم قنوات وعوامل هذه التحولات ذاتها، نظراً لما للصورة والصوت من تأثير كبيرين على الاتصال الجماهيري (تجربة توظيف الفيديو والتسجيلات الصوتية لعدد من الأحداث والوقائع)، لندخل مرحلة جديدة من الإعلام، نتيجة تحرير الخبر من مقص الرقابة والتوظيف السياسي، وهي المرحلة التي جعلت وضعية الصحفي المهنية بين قوسين،خاصة مع بروز فاعل إعلامي إلكتروني لم يعد في حاجة إلى دبلوم معاهد الصحافة، ولا اعتماد رسمي بمزاولة المهنة،حيث تحررت الكتابة والتحليل الصحفي، نتيجة تحرر عولمي للحق في التعبير، حتى أصبحت الصحافة الكلاسيكية المكتوبة عاجزة أمام حجم تدفق المعلومات والمعطيات الإعلامية عبر القنوات الالكترونية: المدونات، الجرائد الالكترونية، خاصة مع الترابط الرقمي الذي وسم هذه المواقع بشبكات التواصل الاجتماعي (الفايسبوك، التويتر…) التي تم توظيفها مؤخراً كحامل وناقل للمعطيات الإعلامية الخبرية منها والتحليلية، بل الأكثر من ذلك أن هذه القنوات باتت مصدرا من مصادر المعلومة بالنسبة إلى الصحافة المكتوبة بشقيها الورقي والالكتروني. كما أن بروز هذا الفاعل الاعلامي الجديد الذي قد يكون أي مواطن عادي، قد ساهم بشكل كبير في تفكيك سياسة الدولة الاعلامية المبنية أساساً على الاحتكار والتوظيف السياسي الذي يخضع لاستراتيجية زمنية وسياقية تخدم مصالح الدولة في تكريس هيمنتها السياسية على المجتمع،طالما أن تحرر المجتمع وتحولاته يخضعان بشكل جوهري للمعلومة في زمن العولمة،إذ لم يعد احتكار السلطة السياسية يخضع فقط لاحتكار الرأسمال المالي، بعد أن شهد العالم تحولات على مستوى الاقتصاد السياسي من رأسمال المال إلى رأسمال المعرفة،وهنا تعتبر المعلومة في عصر تدفق الصور جوهر هذا التحول والانتقال. بيد أن التناسل المهول الذي عرفته المدونة الالكترونية في تضاعف أعداد المواقع الالكترونية الخبرية، في غياب وصاية الدولة القانونية، ورقابة الصحافة الأخلاقية، بعد ضمور أخلاقيات المهنة، سوف يجعل هذا الإعلام الجديدنفسه يتحول إلى سيف ذي حدين، لعل الحد الأكثر فتكا بالمجتمع هو حد توظيف الحياة الخاصة للناس، والتشهير والانتقام، وهو ما صنع قيما جديدة ومعايير معاصرة يمكن أن نسميها بقيم ومعايير المجتمع التلصصيوالفضائحي، وبذلك فَقَدَ هذا الإعلام دوره التنويري ليتحول إلى إعلام "للقطيع"، لم تنتبه الدولة بعد إلى أنالسكوت عنه ومجاراته وتوظيفه يهدد وظيفتها الأخلاقية والتنويرية والحداثية. بيد أن هناك مواقع جادة، حاولت باختلاف الدرجات، أن تبقى وفية لأخلاقيات المهنة، محافظة على وظيفتها الحيادية في نقلها للخبر وتعميمه، ومنحازة إلى وظيفتها النقدية، فيما يخص تحليل ومعالجة الخبر، عبر الرقي بالمتلقي من مجرد التلقي السلبي للمعلومات والمعطيات إلى تنويره بتفكيك مرجعيات وخلفيات المعلومة سياسيا، اجتماعيا، ثقافيا واقتصاديا، من خلال كتاب الرأي والحوارات الصحفية مع الباحثين والمختصين، وفق خط تحريري متحرر نسبيا من الرقابة السلطوية، منحاز لحرية التعبير والحداثة ودولة الحق والقانون. طبعا مع وجود مدارات رقابية نسبية، تخضع لطبيعة النظام السياسي من جهة، وتطور المجتمع المدني من جهة أخرى. وهنا يمكن أن نستحضر تجربة كل من: لكم، كود، يوم 24، هيسبريس، بديل أنفو، الأول، الدار… إلخ، ولو أن المبادرة الأخيرة لوزارة الثقافة والاتصال بتنسيق مع النيابة العامة، تماشيا مع قانون الصحافة، لحجب كل المواقع الالكترونية التي لا تخضع للشروط والمواصفات القانونية، يعتبر ذات أهمية في تحديث وعقلنة المشهد الصحفي المغربي، والحد من هذا التدفق المهول لمواقع تسيء لنبل وسمو مهنة الصحافة.وهو ما يجب أن يُرَافق بتفعيل سلطة المجلس الأعلى للسمعي البصري، وكذا سلطة المجلس الوطني للصحافة للحد من تجاوزات بعض المواقع، حماية للحريات والحياة الخاصة للمواطنين، وسموا بالإعلام المغربي الذي يجب أن يتجاوز الشعبوية والفضائحية، حتى يقوم بدوره التنويري بامتياز.