ما الذي يجري على الأرض، من أوصل الإنسان إلى ما بلغه من حقد وعنف واستهتار بأرواح البشر، ولماذا كل هذا القتل، مهما كانت أسبابه ودواعيه، ألهذا الحد صار الإنسان مُباحاً، وكأن طوفاناً ما هَبَّ على الأرض ليفتك بالبشر، كما لو أنهم مُجَرَّد ذباب أو بعوض لا جُرْم في إبادته والقضاء عليه!؟ بات القتل باسم الدين مُتاحاً، والمبرر أن المقتول كافر، مارق، خارج عن شرع الله، وعن الدين، لذلك، فقتله كان بأمر من الله، وهو انتصار للخير ضد الشر!وهذا، في حقيقة الأمر، ليس سوى غطاء، حاول من خلاله هؤلاء القتلة، الكلام باسم الله، ونابوا عنه في قول ما لم يقله، وما لم يأمر به، بل إنهم تأوَّلوا كتابه، كما تأوَّلُوا أقوال الرسل والأنبياء، وأقوال الفقهاء، وأصبح ما يفعلونه من إجرام، هو دين لا علاقة له بالدين، بل إنه دين قتل وحقد وكراهية وإجرام، لكن باسم دين، جاء ليُساوي بين الناس، ولا فرق فيه بين مسلم وغير مسلم، إلا بالتقوى والإيمان، وحتى العقاب والتواب، ليس منوطاً بالإنسان، إلا في سياق القانون، وما يصدر من شرائع، الدولة هي مَنْ تتكفَّل بتطبيقها، وبما يكفي من ضمانات، تَكْفُل حقوق الأطراف المتنازعة، أو التي بينها خلاف، أو نزاع، أو شنآن ما. كما بات القتل يجري باسم العنصرية، أو الميز العنصري البغيض، الذي كبُر واتَّسَع في كل أنحاء الأرض. لم يعد المسلم، وحده، هو سبب هذا القتل، فقط، ولا الدِّين وحده، بمُسَمَّى الإرهاب، هو ما يمكن أن ننظر إليه شزراً باعتباره مصدر الإحن، كما يقول أبو العلاء المعري، بل إنَّ المشكلة في جوهرها، هي مشكلة الإنسان، ومشكلة تربية وثقافة، ومجتمعات لم تستطع أن تنتصر لفكر وثقافة التسامح والتصافُح، مقابل مجتمع الضغينة والتَّطاحُن، حيث الإنسان فيه صار طُعْماً للإنسان، أو مجتمعَ غابةٍ، أو بِحار ومحيطات، الأقوى فيها يفترس الضعيف ويلتهمه، ليضمن حياتَه هو بِنَزْع الحياة عن الآخرين، بغير حق. ما جرى في مَسْجِدَيْ نيوزيلاندا، من قتل للمُصلين، وهم في مكان عبادة وصلاة، أي في مكان آمن، وما جرى في إحدى مدارس البرازيل، من قتل وذبح للتلميذات والتلاميذ، وتصوير مشاهد القتل والذبح، باعتبارها فرجة أو نزهة، أو دعاية وإشهاراً، هو تعبير حقيقي عن أزمة قِيَم كبيرة سادت الكون والوجود، رغم ما تُقِرُّه الدساتير والقوانين والشرائع، من حق في الحياة، ومن حق في العبادة واحترام معتقدات الآخرين، وما اقتنعوا به من إيمان، ومن أفكار، ورغم ما تسعى المدارس والجامعات لِبَثِّه من تربية على التسامُح، وعلى الاختلاف. ثمة عالم آخر يتأسس في غفلة مِنَّا جميعاً، بدليل ما بات يحققه اليمين المتطرف في الغرب من انتصارات ووصول إلى السلطة ومراكز القرار، بدعم مََنْ يُسانِدونه من الشَّعب الذين هُم في ازدياد وتوسُّع، وهم يدركون أنَّ اليمين المتطرف، هو الصورة نفسها للإرهابي الذي يلبس قتاع الدين، فكل واحد منهما له دين، أو له قناع يُلَوِّنُه بلون الدِّين، أو بلون الجنس البشري السامي، قياساً بغيره من الأقنان والعبيد الذين وُجِدوا على الأرض ليخدموا البيض، أي من هم أسمى وأصفى منهم عِرْقاً وعَقْلاً! العالم، اليوم، يحيا بدون قيم، وكأن كل ما كان في فكر الأنوار، بات مُُتجاوَزاً، أو لا قيمة له، فارغاً من المعنى، ما دام الظلام صار هو السائد، في العقول والأذهان، ومَسَّ كل الأجيال والأعمار، ولم يُوَقِّر أحداً. كلنا ضدّ التطرف والإرهاب، وضد سلب حيوات الناس، وضد الاضطهاد ونشر فكر وثقافة الكراهية والضغينة، لكننا، أيضاً، ضد أن نبقى صامتين ومُتفَرِّجِين على ما يجري. لا بد أن نُعيد النظر في مدارسنا، وما نُدَرِّسُه فيها من كُتب ونصوص ومناهج تعليمية وأفكار، وأن ننتبه إلى دور العقل والخيال، ودور الفن والموسيقى والجمال، في تنشئة الناس، ودور الإعلام، هو اليوم، دور خطير وجسيم، لا بد أن ننتبه إليه، باعتباره وسيلة لنشر فكر التنوير والتسامح والتصافح، وهذا أمر لم يَعُد يعنينا وحْدَنا، بل يعني كل من على الأرض من بشر، لأن التطرف والقتل والاضطهاد، بات كونياً، مَسَّ كل الأرض، وما لم تَتِمّ مواجهته بالفكر ، ومراجعة المفاهيم والنظريات والتصورات القديمة، أو ما صار منها غير ذي جدوى، فإن العالم سيصير ساحة حرب، إنسان فيها يطغى على إنسان، إلى أن يَعُمّ الطوفان كل البلاد، حيث لا بشر ولا طين ولا حجر.