توقفنا في حلقة أول أمس عند أولى عناصر المجرة الإسلامية الحركية في الساحة الفرنسية، انطلاقاً من معاينات على أرض الواقع، ومتابعات بحثية وإعلامية، وتأسيساً على مضامين تقرير لجنة التحقيق في مجلس الشيوخ الفرنسي، والمؤرخ في 7 يوليو 2020، تحت إشراف هشام القروي، الذي عينه الرئيس الفرنسي منذ سنين، للإشراف على ما يمكن الاصطلاح عليه ب"إعادة هيكلة الحقل الإسلامي في فرنسا". كانت الوقفة المخصصة لجماعة "الدعوة والتبليغ"، وتلتها وقفة أمس حول التيار السلفي الوهابي، ونتوقف اليوم عند التيار الإخواني، أو المشروع الإخواني بتعبير أدق، لأنه أكثر حضوراً في المجرة الإسلاموية، مقارنة مع باقي عناصر المجرة، أي "الدعوة والتبليغ" والتيار السلفي الوهابي والظاهرة الجهادية، بينما الأمر مختلف مع التيار الإخواني، لأنه يشتغل على عدة جبهات لم تطرقها باقي التيارات، إضافة إلى معضلة العقلية الإخوانية، كما نعاينها هنا في المغرب والمنطقة، أي معضلة الارتهان للتقية والازدواجية وما جاور تلك الأدبيات التي تميز المشروع الإخواني حصراً، عبر أداء تنظيمية اصطلحنا عليها مَجَرة Galaxie. كانت الوقفة المخصصة لجماعة "الدعوة والتبليغ"، وتلتها وقفة أمس حول التيار السلفي الوهابي، ونتوقف اليوم عند التيار الإخواني، أو المشروع الإخواني بتعبير أدق خلُص التقرير في معرض توقفه عند التيار السلفي، أنها أقل إثارة للقلاقل مقارنة مع ما اعتبره "الخطر الحقيقي، أي الفوري، في فرنسا يمثله أكثر فأكثر أولئك الذين يقبلون الانخراط بشكل من الأشكال في اللعبة السياسية: وهم الإخوان المسلمون". مقارنة مع تواضع معرفة مُعدي التقرير بأدبيات ومعالم تيار "الدعوة والتبليغ" من جهة والتيار السلفي الوهابي من جهة أخرى، كما أشرنا إلى ذلك في الحلقتين السابقتين، نعاين قراءة أكثر تميزاً في التقرير لطبيعة المشروع الإخواني، وإن كانت هناك بعض الملاحظات النقدية، وبالتالي، كان من المفترض أن تكون هناك إضافات أكثر جرأة في الخوض والتدقيق، ولكن بالرغم من ذلك، كانت مضامين المحور أكثر نوعية مع المضامين التي كانت مخصصة لجماعة "الدعوة والتبليغ" والتيار السلفي. الإخوان المسلمون حسب محرر التقرير، يحملون مشروعاً سلفياً تحت غطاء حداثي، حتى إن بعض من قدموا شهاداتهم وآرائهم للجنة التحقيق يقترح مفهوم "الإسلاموية الجديدة" [néo-islamisme] لفهم ما يحدث في المجتمع الفرنسي بشكل كامل، وتعريفها كالتالي، كما نقرأ في الصفحة 34 من التقرير: "الإسلاموية الجديدة هي الإسلاموية نفسها بصراعها وأهدافها، والتي تتمثل في نشر الإسلام وفرض الشريعة، ولكن بطريقة جديدة في العمل. فهم يستخدمون خطاباً يظهر غالباً انفتاحاً معيناً، ومن ذلك مثلاً، أن المتديّن المحسوب على هذا المشروع، يوافق على أن المرأة يمكنها أن تشارك في عرض للأزياء، أو في المسابقات الرياضية الدولية، كما يمكن للرجال حلق لحاهم، وارتداء الزي الغربي. لذا، فإن الإسلاميين الجدد يطورون الآن خطاباً يبدو منسجماً شكلياً مع الحداثة، على وجه التحديد بهدف التسلل إلى هذه الحداثة من أجل أسلمتها. وهو خطاب كثيراً ما يوجد بين النساء الإسلاميات". الإخوان إجمالاً، وهذا معطى معلوم، هم نشطاء سياسيون يسعون إلى الاستيلاء على السلطة عن طريق صناديق الاقتراع، وهو ما يفسر لماذا عارضهم عبد الناصر في مصر حسب التقرير، مضيفاً أنهم في الساحة الفرنسية مثلاً، يحظون بدعم جهات مانحة معروفة، وبالتحديد تركيا وقطر، سعت لتوسيع نفوذها في فرنسا منذ أن أثيرت قضية الحجاب الإسلامي في عام 1989 في مدينة كراي، ولا زال الأمر كذلك اليوم، بل ازداد استفحالاً عبر استقطاب وتوظيف مجموعة من الفاعلين في الإعلام والفكر والعمل الجمعوي، سواء من التيار الإخواني أو من تيار "يسار الإخوان" Islamogaushisme. تزعم الجماعة أنها تحترم قوانين الجمهورية الفرنسية، لكن عملهم وإن كان أولاً اجتماعياً، من قبيل تنظيف المباني، وتشغيل المصاعد، ولكنه عمل ديني أيضاً، ولكن في سياق خدمة مشروع سياسي، على غرار ما نعاين في المغرب والمنطقة، وإن كانت الحالة المغربية تتميز بوجود إمارة المؤمنين، التصوف والمؤسسة الأمنية، وهي المؤسسات الثلاث التي تقاوم المد الإسلاموي بشكل عام. تزعم الجماعة أنها تحترم قوانين الجمهورية الفرنسية، لكن عملهم وإن كان أولاً اجتماعياً، من قبيل تنظيف المباني، وتشغيل المصاعد، ولكنه عمل ديني أيضاً. هذا الهدف السياسي المسكوت عنه، والقائم عبر العمل الإسلاموي عند إخوان فرنسا، هو عينُ ما أكده الشهود أمام لجنة التحقيق، حيث "يتم غزو مواقع السلطة من خلال الجمعيات والمنظمات الخيرية، أي شبكات التضامن والمساعدة المتبادلة بين الإخوان"، لهذا، فإن الجماعة، وبخلاف التيار السلفي، تروم الحصول على الاعتراف بمكان لها في المؤسسات. إنهم الوحيدون الذين لديهم مشروع سياسي حقيقي، يقودهم إلى العمل في المجال الاجتماعي، وجعل مشروعهم يتقدم وفقاً لمنطق اللوبي الطائفي، وبتعبير الخبير أوليفييه روا: "للإخوان المسلمين استراتيجية سياسية للدفاع عن الأقلية التي يحاولون بناءها، وهو ما يقودهم إلى استخدام مفهوم الإسلاموفوبيا". هذه الجزئية مهمة جداً لكي نأخذ فكرة عن بعض أسباب تغيير الفرع الفرنسي للتنظيم الدولي للإخوان، أي "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، إلى إسم جديد، هو "اتحاد مسلمي فرنسا"، في غضون سنة 2017، ولا يخرج الأمر عن تكريس خطاب التقية الذي يتميز به المشروع الإخواني، لأن الحديث عن "اتحاد مسلمي فرنسا"، يُحيل نظرياً على أي جمعية، تضم جماعة من المسلمين، بخلاف المرجعية الإيديولوجية التي تميز "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا"، أي المرجعية الإخوانية، وبالتالي، من الصعب أن يتفطن من لا يتابع أداء المشروع الإخواني في فرنسا، أن الأمر يتعلق بجمعية إخوانية عندما يسمع عن جمعية تسمى "اتحاد مسلمي فرنسا". تفاعلاً مع هذه الجزئية، كان التقرير صريحاً ودقيقاً عند أكد أن الإخوان المسلمين في فرنسا الذين تمثلهم "اتحاد مسلمي فرنسا"، لا يرفضون العلمانية، لأنهم أولاً ليسوا في وضع يمكنهم من رفضها، ولأنهم ثانياً يستفيدون منها: فهي التي تسمح لهم بالنشاط بحرية. وهم لذلك يدعون أتباعهم إلى اجتناب التصادم مع قوانين المجتمع الفرنسي، التي هي قوانين الأغلبية؛ وواضح أن هذا الموقف التوفيقي يخدم مشروعاً عالمياً، حيث لا يفصل الإخوان المسلمون ما يحدث في الشرق الأوسط، من قبيل دعمهم للإخوان في اليمن وليبيا وحماس في فلسطين، عما يحدث في أوروبا وفرنسا، بل يذهب التقرير إلى أن الترويج لمشروعهم يعتمد بشكل رئيسي على عاصمتين: إسطنبول، التي تم تحديدها كقاعدة للمنظرين الرئيسيين للمنظمة، والدوحة. (ص 38)، مع ذكر رقم تقريبي عن عدد أعضاء المشروع الإخواني هناك، وناهز فرنسا 50.000 شخصاً. كان التقرير صريحاً ودقيقاً عند أكد أن الإخوان المسلمين في فرنسا الذين تمثلهم "اتحاد مسلمي فرنسا"، لا يرفضون العلمانية، لأنهم أولاً ليسوا في وضع يمكنهم من رفضها. مما توصل إليه التقرير، أنه بخلاف السلفيين الذين [قد] يجندون أتباعهم من بين الأفراد ذوي السوابق العدلية، [وهذا نعاينه مع بعض الحالات المحسوبة تعلى "السلفية الجهادية"] يستهدف الإخوان المسلمون الطلاب الجامعيين، ذلك أن نظريتهم تدعو إلى التغلغل في المؤسسات الكبرى والجامعات والقوات المسلحة والأمن، وقد "رفض "اتحاد مسلمي فرنسا" التي يترأسها عمار الأصفر الاستجابة لدعوات لجنة التحقيق [ص 30]، وهذه إشارة تلخص الشيء الكثير حول بعض آليات اشتغال هذا المشروع الديني الإيديولوجي شبه الطائفي، وبدهي أن تغذي هذه الإشارة، الظاهرة الإسلاموفوبية. هناك عدة عوامل ساعدت في تميز هذا المحور في التقرير، مقارنة مع تواضع المضامين كما عايناها في حالة الاشتغال على جماعة "الدعوة والتبليغ" والتيار السلفي، نذكر منها على الخصوص، أهمية مضامين مجموعة من الإصدارات التي شرعت خلال السنوات الأخيرة في الاشتغال على كشف وتسليط الضوء على المشروع الإخواني، وخاصة الأعمال التي تصدر عن أقلام مغاربية، أو فرنسية من أصل عربي، لأنها أقدر عن التمكن من مفاصل المشروع، وفي مقدمة هذه الأعمال، بما لها وما عليها، كتاب "لماذا انفصلت عن جماعة الإخوان المسلمين؟" للمهندس والباحث الفرنسي من أصل مغربي محمد لويزي (2016)، وكتاب "التقية: كيف تغلغل الإخوان المسلمون في فرنسا"، للإعلامي محمد صيفاوي (2019). ميزة الكتاب الأول أن مؤلفه كان عضواً في المشروع الإخواني، في المغرب بداية ، وفي فرنسا لاحقاً، وبالتالي يتحدث من الداخل، بمعطيات نادراً ما نجدها عند الذين يشتغلون على الظاهرة من منظور نظري، تأملي، تجريدي، بصرف النظر عن مرجعيتهم النظرية. ميزة الكتاب الثاني، وبصرف النظر عن بعض القلاقل النظرية المرتبطة بأعمال مؤلفه، إلا أن مجرد نشر كتاب يحمل عنواناً يُحيل على مفهوم/ ظاهرة "التقية"، يؤكد أننا إزاء وعي نوعي ببعض آليات اشتغال هذا المشروع، ومعلوم أن نسبة كبيرة من النخبة البحثية والإعلامية والسياسية في المغرب والمنطقة العربية، تجهل أساساً مقتضيات هذا المفهوم، فالأحرى أن تعلم بها النخب الفرنسية.